عازف أسمر وحيد - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 4:20 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عازف أسمر وحيد

نشر فى : الجمعة 6 يناير 2017 - 10:00 م | آخر تحديث : الجمعة 6 يناير 2017 - 10:00 م
كنت واحدة وسط خمسة أفراد اجتمعوا على منضدة صغيرة يستمعون. المنضدة فى بهو الفندق العتيق ذى المساحة الشاسعة والأسقف المرتفعة والفضاء العريض، وبالقرب من أحد أعمدته جلس رجل أسمر، متقدم فى العمر، شاب شعر رأسه ربما قبل الأوان، وقد أخذ يتطلع من خلال نظارته إلى المنضدة الوحيدة الممتلئة بنا.

مال ظهره قليلا محتضنا العود؛ كان هو العازف المنوط به إسعاد النزلاء القليلين، بينما كنا نحن زبائنه أولا عن آخر، ما من شخص سوانا فى المكان. أشاعت الألحان القديمة التى انطلقت من أصابعه ومن جوف العود فى المكان عبقا دافئا حميما، ودفعت فى الوقت ذاته بعلامات استفهام: أين ذهب الناس؟

***

طال بنا المقام جلوسا على بعد أقدام قليلة، وقد امتدت حبال الود منه إلينا، كان الهدوء سيدا والإنصات ممتعا، لا يفسدهما إلا حرج غياب آخرين، يشاركون ويعبرون عن انفعالاتهم. تلقينا عبر إيماءاته امتنانا عميقا؛ ربما لمجرد وجودنا المادى الذى حقق له شيئا من الائتناس، أرسلنا إليه بالمقابل فيضا من التضامن والمحبة. حمل صوته الأجش الخفيض شجنا ندر أن يسمعه المرء فى هذه الأيام، حيث المغنون يزعقون بأصوات رفيعة ويختارون طبقات عالية تثقب طبلة الأذن بلا رحمة.

بعد ساعة أو ما يزيد، كانت الحال على ما هى عليه، لم ينضم إلى خمستنا أحد ولم تمتلئ منضدة أخرى. ذهبت إليه على استحياء وسألته هامسة إن كان يعرف ألحان سيد درويش فأومأ بالإيجاب، طلبت منه «أهو دا اللى صار» فاستأذن أن يأخذ دقائق استراحته المعتادة ورأيته يحمل كوبا يتصاعد منه البخار. لم يلبث أن عاد إلى مقعده وراح يداعب الأوتار، تابعته وقد شرد بعيدا فيما دمعت عيناه وهو يدندن الكلمات: «أهو دا اللى صار وآدى اللى كان.. مالكش حق تلوم عليا». أرخى الجفنين التعبين للحظات وجعل يهز رأسه هزات خفيفة متأسية وكأن المعنى تلبسه واستقر فى روحه.

العينان الدامعتان لم تكونا له وحده؛ كانت أيضا لعمال الفندق ولأصحاب المحال الجرداء فى السوق. البلدة التى كانت تمتلئ بالناس من شتى البقاع، والفندق الذى كان مكتظا بالزائرين والسواح، صارا منهم فضاء، المعابد التى قال المرشد إن حبات الأرز لو ألقيت لأعلى فى أعوام مضت ما سقطت على الأرض بسبب تزاحم السائحين فيها، كانت كما الصحراء، لم يتجاوز عدد روادها يوم زيارتى أصابع اليد الواحدة. شاهدت الوضع القاتم بينما الصحف والبرامج تزف المعجزة وتحتفى احتفاء مبهرا بوصول فوج مكون من بضع عشرات من الأشخاص وكأن مقدمهم إلى صعيدنا إنجاز غير مسبوق.

أسوان الخاوية: كئيبة لا شك، محزنة لا شك، والعازف الوحيد يشدو كما لو كان ينعيها. سألته بعد أن قام مغادرا البهو إن كان مواظبا على الغناء كل يوم فى فترة إقامتى، فأجابنى هذه المرة بالنفى وهز رأسه متحرجا: «مش كل يوم لسه الحال يعنى».

فى الأيام التالية ازداد عدد الزبائن نسبيا لكنهم كانوا مختلفين عما هو معتاد أو ربما عما توقعت؛ جلسوا فى محيطه لكنهم لم يسمعوه، الأطفال يعدون من حوله ويدفع أحدهم الآخر أرضا ويصرخون ويكاد أحدهم يجذب اليد الممسكة بالريشة والرجل يمضى فى عزفه غير آبه بما حوله؛ سواء امتلأت المناضد أو انفض الناس. انضم إليه طبال وانتظم الاثنان فى الحضور، يمكثان ساعتين تقريبا كل يوم؛ يعزفان لأنفسهما فقط، أحيانا ما يكون هناك عدد من النزلاء الذين يصمون آذانهم وأحيانا أخرى لا تكون هناك سوى المقاعد.

***

تحسنت الحال قليلا فى نهاية الرحلة، ظهرت عائلة أخرى تشاركنا السماع وتجلس بالقرب من العواد مصغية، وبدا الرجل فى أسعد حالاته إذ لم يعد وحيدا تماما كما كان.

رحت أنتظره كل يوم والتزمت ومن معى بالتصفيق مع نهاية كل لحن أو أغنية؛ لا مجاملة ولا إشفاقا وتعاطفا بل إعجابا أكيدا. كان الرجل ماهرا حقا ومجيدا فى أدائه حد البراعة التى تلفت الانتباه. واظب هو الآخر على التواصل معنا؛ كلما صفقنا رفع يده بالتحية وخفض رأسه وكست وجهه ابتسامة كبيرة، جزلة وخجولة.

***

فى اليوم الأخير للرحلة القصيرة، كان فى قلبى همٌ وكأننى صرت ملتزمة بالوجود فى البهو وبالإنصات إلى العود والصوت الأجش الرخيم.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات