لغتنا الفصيحة - كارولين كامل - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 9:23 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لغتنا الفصيحة

نشر فى : الإثنين 6 مارس 2023 - 8:00 م | آخر تحديث : الإثنين 6 مارس 2023 - 8:00 م
«ماذا تعنى كلمة أيون.. لأن أيون كما درستها فى علوم الكيمياء تعنى ذرات عناصر معدنية فقدت إلكترون»، هكذا كتب لى أبى بعد أن جاوبت سؤاله بـ«أيون حصل»، واختصارا للوقت والمجهود اتصلت بأبى أوضح له الإيفيه السينمائى المرتبط بلفظة «أيوة» وتغييرها لتكون «أيون»، لم يكن مضحكا بالنسبة له، بل كان سببا ليتحسر على الماضى وأناقته، بينما نعبث نحن باللغة.
«وكنت إذا سألت القلب يوما.. تولى الدمع عن قلبى الجوابا»، وهى من أبيات قصيدة سلوا قلبى للشاعر أحمد شوقى، وغنتها أم كلثوم لأول مرة فى حديقة الأزبكية عام ١٩٤٦، وكان يدندنها رجل الشارع بسلاسة كما يقول أبى عن ذوق وفصاحة هذه الأجيال التى سبقتهم وبالتبعية ورثوا هم أيضا هذه الفصاحة، بينما نحن أجيال «اليومين دول» وصلنا باللغة إلى أيون وغيرها.
فى عام ١٩٤٥ أى قبل أن تغنى الست هذه الأغنية بعام، كانت لجنة وزارة المعارف فى «مجمع فؤاد الأول للغة العربية» الذى أنشأه الملك فؤاد عام ١٩٣٣ قد وضعت خطة عمل لتيسير قواعد اللغة العربية على الطلبة بعد ما لمسوه من تدهور واضح فى لغة الشعب المصرى، وقالت فى تقريرها:
«نحن واثقون بأن من الأسباب القوية لضعف المصريين فى اللغات الأجنبية نفسها أنهم لا يحسنون لغتهم الوطنية».
نُشر نص هذا التقرير فى الجزء السادس من المجلة التى تصدر عن المجمع بتاريخ ٤ أبريل ١٩٥١، والملفت أن تقرير وزارة المعارف تحدث بإسهاب عما نال اللغة العربية الفصيحة من تراجع خاصة على لسان شباب هذا الزمن الجميل، لأنهم لا يسمعون اللغة الصحيحة فى البيت أو البيئة المحيطة بهم، وفى المدرسة لا يسمعونها أيضا بشكل صحيح بسبب إهمال المعلمين و«إيثارهم للراحة» باستعمال اللغة العامية، على حد قول الوزارة.
مجلة «مجمع فؤاد الأول للغة العربية»، والتى حصلت عليها من «سوق ديانا»، بعد أن خطف بصرى هيئتها القديمة وعنوانها، وفور أن تصفحتها لم أتردد لحظة فى شرائها أيا كان الثمن المطلوب فيها، بعد أن لمحت أسماء أعضاء المجلس.
ومنهم على سبيل المثال (كتبت الألقاب فى المقالة جميع كما كُتبت فى المجلة) حضرة صاحب العزة الدكتور طه حسين بك، أحمد لطفى السيد باشا رئيس المجلس، عبدالحميد بدوى باشا، عبدالعزيز باشا فهمى وزير الحقانية، حضرة صاحب المعالى الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف، وغيرهم.
وأوضحت كلمة تحرير المجلة أن الجزء الخامس قد صدر عام ١٩٤٨، إلا أن المجلة قد توقفت طباعتها، بسبب سنوات الحرب والتى استحكمت فيها أزمة الورق والطباعة، إلا أن لجان المجمع لم تتوقف عن عملها، حيث اعتمدت الكثير من تعريفات لمصطلحات وتم نشرها فى الجزء الذى بحوزتى، ومنها تعريفات «الشيوعية، الاشتراكية، الفوضوية، البروليتاريا، الفاشية، النازية، الإضراب، السوق السودا، الفقر، الترف، الاستعمار».
• • •
كانت اللغة العربية «السليمة» أو الفصحى فى مواجهة تغول العامية على لسان الشعب المصرى، محور اهتمام أعمال مجمع اللغة على مدى تلك السنوات التى احتجبت فيها المجلة، وتناولت كلمات غالبية أعضاء المجمع تلك الظاهرة، ففى كلمة حضرة صاحب المعالى الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف وصف اللغة بأنها كائن حى، متين الأساس ومستقر القواعد، ولكنه يحتاج إلى أن يتطور ليواجه الحياة، ويقول:
«وإنا لنرجو أن يوفق الله هذا الجهد.. ويسدد خطى الذين يبذلونه.. لتكون لغتنا العربية الكريمة سليمة، غدا كما كانت فى الماضى».
وإرفاق اللغة بألفاظ مثل «الكريمة»، وفى كلمة عبدالحميد بدوى باشا وصفها بـ«العزيزة» الغارقة فى سبات، جعلنى أتخيلها طفلة صغيرة هاربة يجد كل هؤلاء فى البحث عنها، حتى تعود بأحرفها ونقاطها إلى ديارها آمنة، وأوضح بدوى أيضا ما فعلته العامية بالفصحى بقوله:
«ومن طبائع عصور التأخر أن يعظم فيها شأن اللغة الدارجة والعامية، فإن انكماش الخاصة يجعل لها الغلبة والسيادة».
وفى المجلة ذاتها طرح أحمد لطفى السيد باشا من مشروع لجمع ألفاظ الحياة العامة من جميع المجالات، لتكون اللغة المستعملة بالفعل فى الحياة بين يدى مجمع اللغة لبحثها وإقرار منها ما يراه المجمع مناسبا، وذكرنى مشروعه بالفيلم الأمريكى «البروفيسور والمجنون» بطولة ميل جيبسون وشون بين، حيث يسعى حراس اللغة الإنجليزية إلى جمع جميع كلمات اللغة لعمل قاموس شامل جامع يحفظ كل شاردة أو واردة إنجليزية.
لم أقرأ المجلة دفعة واحدة، ولكن فى كل مرة كنت أقرأ جزءا جديدا، كنت أضحك رغما عنى لأن العامية الشبابية ولغة الشارع فى أربعينيات القرن الماضى التى ينتقدها المجمع، هى على ما أظن أقرب إلى عامية الفنان عماد حمدى ونطقه الفصيح لـ«أنا مضايق يا نينا» بالضغط على الضاد، وفى رضاه يقول «ممنون»، وغيرها من جمله السينمائية التى نستخدمها نحن الآن للتهكم على العامية القديمة إن كان يصح هذا الوصف.
إلا أن لجنة وزارة المعارف أقرت فى كلمتها أيضا بصراحة أن إحياء اللغة الفصحى لن يكون بمحاربة العامية، بسبب استحالة السيطرة عليها لأنها لغة التخاطب فى البيت وخارجه، ولكن اقترحت أن يتم التفتيش على المعلمين فى المدارس للتأكد من استخدامهم الفصحى أثناء الحصص.
• • •
«ما أشبه الليلة بالبارحة» الجدل حول أصالة الفصحى فى مقابل شعبية العامية وما تضيفه الجماهير من ألفاظ أو تُحرفه عن الأصل، سمة على ما يبدو يتم توارثها عبر الأجيال، حتى صار من العسير أن نعرف ما شكل اللغة التى رضى عنها أى جيل يوما ما.
يستعين بى أبى أحيانا لأفسر له تعليق شخص ما على فيسبوك يتضمن كلمات لا يعرفها، وعادة ما تكون من الكلمات العامية التى صارت دارجة بيننا ربما نحن الأجيال الأصغر سنا، والغريب أن أبى وغيره يكتبون تعليقاتهم على وسائل التواصل الاجتماعى بالفصحى مع مزجها بقليل من العامية، فتبدو أحيانا تعليقاتهم كوميدية حتى وإن لم يكن الغرض منها فكاهيا.
وأتذكر أنى اختلفت مع زميل أكبر منى فى السن والخبرة حول نص أدبى ما ليس موضوعه اللغة ولكنها كانت مناسبة ليثبت لى حصيلته اللغوية الفصيحة، بأن وصفنى بـ«الرويبضة»، وكل الشكر لجوجل الذى يعرف معنى كل شىء حتى السباب الجاهلى، فشكرت الزميل سرا لأنه أضاف إلى قاموس كلماتى هذه الكلمة التى لم أكن أعرفها من قبل.
حالة عدم الرضى عن الذات هى حالة صحية طالما كانت بغرض اتقاء شر الغرور، وتشجيع النفس على التطور المستمر، ولكن لا أعلم إن كان صحيا أو معقولا أن تتوارث الأجيال عدم رضاها عن اللغة وما وصلت إليه، وإن كنت لا أتمنى لنفسى بعد ثلاثين عاما، أن أؤنب الأحفاد وألعن لغة جيلهم، فى حال لم ينهِ الاحتباس الحرارى وجودنا بالكامل.
كارولين كامل صحفية مصرية
التعليقات