«رسالة الإمام» كمسلسل معاصر - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 5:54 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«رسالة الإمام» كمسلسل معاصر

نشر فى : السبت 6 مايو 2023 - 8:45 م | آخر تحديث : السبت 6 مايو 2023 - 8:45 م
كانت حلقات «رسالة الإمام» من أبرز الأعمال الدرامية فى شهر رمضان على المستوى الفنى، بالإضافة إلى ما أثارته الحلقات (فكرة وسيناريو وإشراف على الكتابة والحوار محمد هشام عبية وإخراج الليث حجو) من جدل ومناقشاتٍ تاريخية وفقهية وسياسية.
يعكس كل ذلك ثراء المعالجة، وبراعة الكثير من العناصر الفنية والتقنية، وتلك الرؤية المختلفة التى قدمها المسلسل، لشخصية الإمام الشافعى، وزمنه، واجتهاداته، وعلاقة كل ذلك بواقعنا الراهن، إلى درجة أنك يمكن أن تعتبر العمل مسلسلا معاصرا، يرتدى ثوب التاريخ، ويأخذ من حياة الإمام، ومن فقهه واجتهاداته، ما يناقش واقعنا الحالى. فكأن الإمام قد حلّ فى زمننا، أو كأننا ما زلنا ندور ونلف حول قضايا قديمة، شغلت الإمام وفقهاء عصره!
الدراما التاريخية الناضجة هى التى تستدعى الماضى من أجل الحاضر، وهذا منهج المعالجة كلها، وربما هو أيضا سبب انزعاج الكثيرين منها. فقد توقعوا سردا يلخص حياة الشافعى، على طريقة مسرحة المناهج المدرسية، بينما توقع البعض أن نرى تلخيصا لفقه الإمام، وشروحات دينية مطولة. ولكنهم وجدوا رؤية معاصرة لتاريخ الرجل وعصره، واختيارات محددة لخطوط ومسارات، ولمسائل فقهية بعينها.
أى إننا أمام استدعاء للماضى من أجل اليوم، وأمام رؤية للتاريخ، وليس نقلا أو تلخيصا له. هكذا شاهدنا فى الحلقات فقيها عظيما من المعدودين يساند بنتيه من أجل التعلم والعمل، ويساند حق فتاة فى رفض من لا تريد الزواج منه، ويؤيد ترميم الكنائس بوصفه من عمران البلاد، وينحاز إلى حق الأرملة فى الميراث وفق الشريعة، ويرفض أن يكون جزءا من فتنة سياسية، ويعرف كيف يفصل بين المصلحة العامة، ومصلحة الأحزاب السياسية. الحكاية كلها تفرّق بوضوح بين أهل السياسة، وأهل العلم والدين، وتجعل البقاء للعلم وللعلماء.
بل لعل منطق الإمام أقرب إلى لعن السياسة عموما، مع أن الرجل لم يكن جبانا، ولكنه كان يعلم أن السياسة فى زمنه، وربما فى كل الأزمنة، ستريق الدماء، وستكرس الفتنة. لا شك أن هذا المنطق الصريح قد أزعج جماعات الإسلام السياسى التى تستخدم الدين للوصول إلى السلطة.
لعلك لاحظت أيضا أن خطوط الصراع السياسى بين الجروى والُسرّى تتم تحت مظلة الخلافة، أى إن الصورة المثالية الموهومة عن الخلافة، والتى تدافع عنها جماعات الإسلام السياسى، قد تحطمت بقوة خلال أحداث المسلسل، بل إن فتنة السياسة والقتل، كادت أن تدمر كل العلم الذى دوّنه الإمام الشافعى.
الرجل نفسه، بأداء خالد النبوى البسيط والعميق، ظهر كإنسان عادى، يبتسم للناس، ويمشى فى الأسواق، لا ينفعل إلا فى حالاتٍ استثنائية، ويرد بصبر جميل على حماقات الجهلاء والحمقى.
لا يزعم العصمة لنفسه، ولكنه يبحث ويدون، يراجع نفسه، ويناقش تلاميذه، ويقول إن رأيه صواب يحتمل الخطأ، بعكس بعض «فتوجية» هذه الأيام.
رجل تحبه حتى لو لم يكن عالما وفقيها عظيما، ورجل التقت شخصيته السمحة والبسيطة مع شعب وبلد فيهما نفس الصفات. فكأنه على موعد مع مصر، وكأن مصر على موعد معه.
سر جاذبية مسلسل «رسالة الإمام» فى أنه تعامل مع الإمام الشافعى كشخصية درامية، وليس كداعية يقدم دروسا وعظاتٍ مباشرة.
الدراما بخطوطها الواقعية أو الخيالية هى الأساس، ومن خلالها يمكن أن تُمرّر رسالة الإمام، وليس العكس، وإلا كانت الأفكار والنبرة التعليمية أعلى صوتا من الدراما.
كل حلقة تستكمل صراعا مستمرا بدأ منذ الحلقة الأولى، وكل حلقة تعرض لشخصياتٍ من لحم ودم، وليست شخصيات فضائية أحادية الجانب.
وطريقة أداء الممثلين، وإيقاع العمل كله، يعكس صدى الحياة اليومية لبشر عاديين فى مدينة الفسطاط.
القاعدة الذهبية تقول: اكتب الإنسان بكل تفاصيله، ثم ناقش من خلاله أى قضية تريدها، بذكاء وبدون مباشرة أو صوت عال.
دع المواقف تحكى وتعبر، وامنح المكان حياة بنبض البشر ونقائصهم وقوّتهم وضعفهم، ولا تتردد فى إضافة أى شخصيات أو خطوط خيالية تدعم تطور الأحداث.
الدراما لا تنقل الواقع، حتى لو كانت الشخصيات حقيقية، ولكنها تصنع واقعا موازيا كاملا، تقدم من خلاله رؤية خاصة، للشخصيات وللعصر وللتاريخ. وهذا ما حققته الحلقات بامتياز.
رأينا فى الحلقات نماذج نسائية عظيمة، تتفقه فى الدين، وتمارس الطب، وشاهدنا قصة حب تكلَّل بالزواج، بعد دفع الافتراءات عن الفتاة العاشقة، وشاهدنا جلال السيدة نفيسة، ودورها الاجتماعى والدينى، ورأينا شخصية مسيحية محبوبة، فى قلب مجتمع المسلمين.
عرفنا من يجادل انتصارا لمذهب أو تيار، ومن يجادل بحثا عن الحقيقة، من يتعب فى سبيل الحفاظ على العلم مدونا ومكتوبا، ومن يتعب بحثا عن السلطة والحكم، من يتبنى طفلا يتيما ليعلّمه، ويحميه من ضياع الشوارع، ومن يصادق السيف والعنف والقتل وسفك الدماء، بحثا عن غنائم دول الخلافة.
المسلسل أيضا عن مصر مثلما هو عن الإمام الشافعى. عن البلد التى جعلت الإمام يقدم اجتهادا مختلفا عن اجتهاده السابق.
الروح المصرية جزء أصيل من المسلسل، ولعل ذلك سبب اختيار العامية المصرية لحوار بعض الشخصيات. إنها ليست إضافة شكلية، ولكنه «اختيار فنى»، يذكرنا دائما بخصوصية الحالة المصرية، وبتأثيرها على الإمام.
النيل يتدفق عذبا سيّالا، والبشر يبدون فى حالهم، لا يتحركون إلا عندما تتعرض الفسطاط للخطر، لحظتها فقط يتحركون للدفاع عن مدينتهم، ولكنهم يتأففون من مناظر القتل والذبح، ويشعرون بالضيق من صراعات الطوائف والجنود، ويعرفون أن هذه الصراعات شخصية، حتى لو تستّرت تحت عباءة الدين أو السياسة.
قضايا المرأة، ولعبة الدين والسياسة، وصراع الحكم والخلافة، ومنهج التشدد والتعصب، كلها قضايا معاصرة.
ربما كانت هناك إطالة أحيانا فى بعض خطوط السرد، ولكننا فى النهاية أمام مسلسل خطير عن «هنا» و«الآن». عن الشافعى كفقيه «معاصر»، يعيش بيننا. يرد بقوة على فوضى الفتاوى، ويواجه سطوة التشدّد والمتشدّدين.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات