الثقة حين تغيب - سلامة أحمد سلامة - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 7:56 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الثقة حين تغيب

نشر فى : الخميس 7 يناير 2010 - 10:15 ص | آخر تحديث : الخميس 7 يناير 2010 - 10:15 ص

 فجرت حملة تطعيم تلاميذ المدارس ضد إنفلونزا الخنازير مشكلة عويصة، كشفت عن الهوة العميقة لغياب الثقة بين الدولة والشعب، أو بين الحكومة والمواطن. وظهر أن كثيرا من أولياء الأمور ظلوا حتى اللحظة الأخيرة يتشككون فى جدوى إعطاء المصل الواقى لأولادهم. وعجزت الحكومة بكل أجهزتها الإعلامية عن تبديد ما تردد من شائعات حول الآثار الجانبية الضارة كالإصابة بالشلل أو بمرض التوحد. وحتى حين ظهر وزير التعليم السابق يسرى الجمل وهو يأخذ التطعيم أمام تلاميذ المدارس وعدسات المصورين، لم يتغير موقف أولياء الأمور. وكان واضحا أن السبب فى ذلك هو أن الدولة نفسها ظلت مترددة بين الأخذ بنظام التطعيم واستباق الإصابة بالمرض، وبين الاعتماد على توفير عقار التاميفلو الذى يستخدم للعلاج بعد الإصابة بالمرض. وفقد الناس كثيرا من الثقة بقدرة الحكومة، حين اتضح أن الدولة لن تكون قادرة على توفير كميات كافية من الأمصال المضادة اللازمة.

لم تكن هذه هى المرة الأولى التى تتسع فيها شروخ الثقة بين الناس والحكومة، ولكن عجز الدولة وقياداتها فى الحزب الوطنى عن تسويق سياساتها يكاد يصبح علامة مسجلة لسياساتها. ولهذا السبب لم يجانب الصواب حديث رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات المستشار جودت الملط حين أشار إلى وجود أزمة ثقة بين الحكومة والمواطن. ففى كل المجالات التى يتعامل فيها المواطن مع الحكومة، يجد المواطن نفسه إما مغلوبا على أمره، أو مخدوعا من جانب السلطة، أو ضحية تصريحات وردية يدلى بها الوزراء والمحافظون لا ينفذ منها شىء. وتساهم وسائل الإعلام والحملات الإعلانية المسمومة فى خداع المواطنين والتغرير بهم.

وتبدو مصر فى الوقت الراهن غارقة فى مشكلتين أخريين ــ إلى جانب التطعيم ضد إنفلونزا الخنازير ــ يدلان بدورهما على غياب الثقة فيما تراه أو تفعله الدولة من أجل الصالح العام. إحداهما وهى مشكلة الضريبة العقارية والأخرى وهى قضية بناء الجدار على الحدود فى غزة.

فقد نزلت مشكلة الضريبة العقارية على رءوس الناس كالصاعقة، قبل أن يفيق الملايين منهم من آثار الأزمة الاقتصادية وغلاء الأسعار. وبينما بدا أن الضريبة العقارية قد قصد بها سد العجز فى موازنة الدولة، وقيل فى البداية إنها شرعت لكى يدفع أصحاب القصور والفيللات الفاخرة فى المنتجعات الساحلية والمدن الجديدة ضريبة عما يعتبر نوعا من الاستثمار الترفيهى طويل الأمد، فقد اتضح أن المسألة أبعد من ذلك وأنه يشمل جميع المواطنين، ولا يفرق بين السكن الخاص الذى يسكن فيه المواطن مع أسرته وبين الذين يملكون القصور والفيللات.

وقد ساق وزير المالية حججا كثيرة فى الدفاع عن ضريبته. ولكن لم يكد القانون يطرح للمناقشة فى مجلس الشعب حتى ظهرت عيوبه بشكل صارخ، وأفتى عدد لا بأس به من أساتذة القانون والخبراء بعدم دستوريته. ولم يجد عامة الناس مفرا من المسارعة إلى تقديم إقرارات الضريبة المطلوبة ليس عن اقتناع ولكن عن خوف. بينما رفض فريق آخر الاستجابة لأوامر الحكومة، ولم يكن مفهوما لماذا لم تتريث الحكومة فى دراسة القانون وعرضه على أهل الاختصاص قبل أن تطرحه بهذه الطريقة المزرية التى أصابت الناس بالحيرة والبلبلة، وأظهرت الحكومة بمظهر الشلل والعجز عن الدفاع عن سياساتها.

وقبل الضريبة العقارية، كانت هناك حكاية الصكوك الشعبية التى شعر المواطن أن الحكومة تريد من ورائها خصخصة ما تبقى من القطاع العام لتستولى عليه، مقابل صكوك أو أوراق لا قيمة لها. وبحيث تنتهى ملكية القطاع العام إلى أيدى حفنة من المستثمرين ورجال الأعمال. وقد أنفقت الحكومة جهدا ووقتا غير قليل فى الدعوة لهذا المشروع ثم نكصت على عقبيها بعد أن فشلت فى إقناع الناس بجدواه.

هذا المناخ العام من تآكل الثقة بالحكومة وببرامج الإصلاح التى تخرج من أضابير الحزب الحاكم دون تروٍّ، وبقدر كبير من الاستهتار بذكاء الشعب، لابد أن يزكيه ما يراه المواطن العادى من انفلات قوى الفساد.. التى سمحت لرجل مثل وزير الإسكان السابق بأن يرتكب من جرائم نهب المال العام، والتفريط فى أموال الدولة وتوزيعها على الأقارب والمحاسيب والأصدقاء بأثمان بخسة طوال هذه السنوات. والمدهش أن تظل هذه الجرائم مسكوتا عنها بعد أن فاحت رائحتها وأزكمت الأنوف، فلا تقدمها الرقابة الإدارية للنيابة إلا الآن بعد أربع أو خمس سنوات، وهو ما يثير تساؤلات جادة: لماذا كان السكوت عليه حتى الآن؟.. ولماذا لا يحاسب معه المتورطون والمستفيدون بالفساد؟وحين تأتى بعد ذلك قضية سياسية، على درجة من الأهمية والحساسية مثل قضية بناء الجدار، فلن يكون غريبا أن يقف الشعب منها موقف التشكك والحذر، توقعا بأن هدفا خفيا وراءها.. وإلا فلماذا سكتت عليها الدولة وأنكرتها حتى كشفتها الصحف الإسرائيلية ونشرت تفاصيلها؟.. كل ما دافعت به الأجهزة الرسمية أنها قالت إنها ليست جدارا فولاذيا عازلا ولكنها إنشاءات هندسية. فما الفرق؟.. وإذا كان من ضرورات الأمن القومى فعلا أن تغلق مصر الأنفاق بكل الوسائل، تجنبا لتهريب السلاح والمخدرات والأشخاص فقد كان ضروريا أيضا أن تعلن تعهدها بتوفير الغذاء والدواء والاحتياجات الأساسية لأهل القطاع عن طريق معبر رفح أو غيره. ولا حاجة للقول بأن ثمة مسئوليات متوازية لا يجوز التفريط فى أى منها.

سوف يظل غياب الثقة الذى يؤدى إلى انعدامها نتيجة غياب الديمقراطية، ظاهرة ملازمة للحياة السياسية الراهنة فى مصر. وهى ظاهرة تنتشر مثل الوباء بين الأفراد، وبين الحكومة والشعب، وبين الأحزاب.. وحين يتساءل البعض عن عدم إقبال المواطنين على التصويت فى الانتخابات، فلا تسألن عن السبب!!

سلامة أحمد سلامة صحفي وكاتب مصري كبير وصاحب آراء ليبرالية قوية وجريئة وبناءة في مسيرة الصحافة العربية. يشغل منصبي رئيس مجلس تحرير جريدة الشروق ورئيس مجلس تحرير مجلة وجهات نظر. هو صاحب العمود اليومي من قريب في جريدة الشروق وكان في السابق نائبا لرئيس تحرير الأهرام.
التعليقات