آسيا تكتب التاريخ - نبيل مرقس - بوابة الشروق
الثلاثاء 14 مايو 2024 6:00 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

آسيا تكتب التاريخ

نشر فى : الأربعاء 7 سبتمبر 2022 - 7:30 م | آخر تحديث : الأربعاء 7 سبتمبر 2022 - 7:30 م
كما أن بزوغ الغرب قد غيَّر وجه العالم وسطور التاريخ، فإن صعود آسيا المذهل سوف يُحْدِثُ انقلابًا مماثلًا.
(كيشور محبوبانى، نصف الكرة الأرضية الآسيوى الجديد، 2008)
• • •
يصف كيشور محبوبانى الباحث التنموى المرموق والمندوب الدائم الأسبق لسنغافورة فى الأمم المتحدة فى كتابه الهام «نصف الكرة الأرضية الآسيوى الجديد» الصادر عن Public Affairs بنيويورك عام 2008، ملامح العالم الآسيوى «ما قبل الحديث» الذى ولد فيه فى إحدى عشوائيات سنغافورة فى الخمسينيات من القرن الماضى: «عشت حتى سن العاشرة فى شقة من غرفة واحدة شاركتها مع أربعة آخرين من أقاربى. كنا لا نملك ثلاجة، أو تليفونا، أو تلفزيونا. ولكن معاناتنا الحقيقية كانت فى غياب دورة مياه ذات مرحاضٍ دافق بالرغم من وجود صنابير المياه النقية والكهرباء. وفى كل صباح يأتى مجموعة من الغرباء لأخذ الوعاء المعدنى الممتلئ بالفضلات فى دورة المياه، لإحلاله بوعاءٍ نظيف سوف يمتلئ بدوره خلال ساعات اليوم الأربع والعشرين» (ص 14 ــ 15). ويستشهد محبوبانى على حقيقة انتقال مركز ثقل التنمية الاقتصادية والاجتماعية فى العالم من الغرب إلى نصف الكرة الأرضية الآسيوى بالتقرير الصادر عام 2007 من البنك الدولى تحت عنوان «التوجهات الاقتصادية الكونية: إدارة الموجة الجديدة للعولمة». ذلك التقرير الذى يرصد أن عدد الذين يعانون من الفقر المدقع فى شرق آسيا قد انخفض بشكل ملحوظ فى العقدين الأخيرين من القرن الماضى بين عامى 1981 و2001، وقد خص الصين وحدها 400 مليون صينى تحرروا من وصمة الفقر المدقع. وبينما يتوقع التقرير الدولى انخفاض نصيب آسيا من ضحايا الفقر المدقع على النطاق العالمى من النصف فى عام 2006 إلى الخمس فى عام 2030، يتوقع أيضًا ارتفاع نصيب الصين وحدها فى أفراد الطبقة الوسطى المدينية من 56 مليون مواطن فى عام 2000 إلى 361 مليون فى عام 2030 (أى ما يزيد عن تعداد الولايات المتحدة الأمريكية بالكامل). وعلى غلاف مجلة التايم الأمريكية فى أكتوبر 2006 وتحت عنوان مثير «التجربة العلمية العظيمة فى آسيا»، تنبأ ريتشارد سمالى الحائز على جائزة نوبل فى الكيمياء بأن تسعين بالمائة من حاملى درجة الدكتوراة من العلماء والمهندسين سوف يكونون من أبناء آسيا بحلول عام 2010. بينما يصرح تشارلز لدبيتر من مركز التفكير البريطانى «ديموس» الذى نظم مؤتمرًا دوليًا فى يناير 2007 عن التوجهات الكونية للعلم والتكنولوجيا بالقول: «إن التفوق الكاسح للإبداع ذى القاعدة العلمية فى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا لا يمكن التسليم به حاليًا. لأنه من الواضح أن مركز ثقل الإبداع الكونى ينتقل تدريجيًا من الغرب إلى الشرق» (ص 59). ويرى كيشور محبوبانى أن قصة «التجربة العلمية العظيمة فى آسيا» بدأت واحدًا من أهم فصولها من عند بانى الهند الحديثة البانديت جواهر لال نهرو أول رئيس لوزراء الهند المستقلة من 1947 إلى 1964 (الذى جمع بين الدراسة فى هارو وكمبردج فى إنجلترا وبين ممارسة اليوجا وقراءة الكتب الهندوسية المقدسة، وبين نبذ الملابس الأوروبية وارتداء الملابس الهندية التقليدية وبين اعتناقه لمبادئ الفكر العلمانى الغربى، وجمع أيضًا بين تلمذته على يد المهاتما غاندى روحيًا وسياسيا ودراسته للأسس الاقتصادية الماركسية واعتناقه للفلسفة الاشتراكية الديمقراطية). وهو قد غرس بذرةً من بذور الحكمة الهندية الحديثة عندما أسس عام 1951 أول معهد هندى للتكنولوجيا (IIT) فى مدينة خراجبور بالقرب من كلكتا، ثم أَتْبَعَ ذلك بتأسيس ستة معاهد تكنولوجية فى مدن مومباى، شيناى، كانبور، نيودلهى، جواهاتى، وروركى. وتم تصميم امتحانات قبول صارمة بتلك المعاهد تعتمد الكفاءة ولا تقبل الوساطة أو المحسوبية المنتشرة فى بلدان العالم الثالث. وفى عام 2002 وجدنا أن جامعة هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) اللذين يعدان من أعلى المعاهد العلمية الأمريكية انتقائية، تقبلان 10.5٪ & 16.2% من الطلاب المتقدمين لهما على الترتيب، بينما سلسلة المعاهد التكنولوجية الهندية لا تقبل أكثر من 2.3% من الطلاب المتقدمين لها والخاضعين لامتحاناتها الصارمة. مما جعل ليزلى ستال المذيعة فى قناة CBS الأمريكية تصرح: «ضع هارفارد وMIT معًا، لتستطيع أن تتصور المكانة المرموقة لهذه المعاهد التكنولوجية (IITs) فى بلدها الهند». وقد ساهم نجاح خريجى هذه المعاهد التكنولوجية الهندية الذين التحقوا بالعمل فى «وادى السيليكون» بالولايات المتحدة الأمريكية فى بناء صورة جديدة للهند الناهضة، كما تم خلق رابطةً مادية ومعنوية بين الهندى الذى ينمى معرفته العلمية والتقنية بالخارج واحتياجات وطنه الأم للتقدم والتنمية. فقد مثلت تحويلات الهنود العاملين بالخارج أحد أهم مصادر النقد الأجنبى للدولة الهندية (حيث بلغت 22 بليون دولار عام 2005 وجاءت بعدها الصين بـ 21 بليون دولار فى نفس العام). ويشير أحد الاقتصاديين الهنود فى جامعة كولومبيا الأمريكية إلى دور المهاجرين الهنود إلى الغرب بقوله: «يلعب المهاجرون غالبًا دور «حصان طروادة» لصالح الهند. فهم يستخدمون الموارد الخارجية المتاحة لهم لينجحوا بشكلٍ مبهر فى عديدٍ من المهن. ثم يصبح فى مقدورهم العودة بما اكتسبوه من مهارات وما راكموه من ثروات، ليساعدوا بلدهم النامى فى تحقيق طفرته الاقتصادية الموعودة» (ص 60).
• • •
ولا يكتمل الحديث عن مكانة العلم والعلماء فى بناء صورة «الهند الناهضة»، إلَّا بذكر نموذج باهر للعلماء الهنود الذين وصلوا إلى منصب رئاسة الدولة الهندية. وهو أفول بكير عبدالكلام عالم الفضاء الهندى الذى تم انتخابه عام 2002 بدعمٍ من الحزبين الكبيرين فى الهند ــ حزب جاناتا وحزب المؤتمر ــ ليصبح الرئيس الحادى عشر للهند لفترة رئاسية واحدة مدتها خمس سنوات. وهو مسلم من عشيرة التاميل فى ولاية تاميل نادو الهندية التى يقطنها أغلبية من التاميل والتى اشتهرت بتخريج أهم علماء الرياضيات فى الهند وفى العالم، وحصل اثنان من علمائها على جائزة نوبل فى الفيزياء وهما سير رامان عام 1930 وشاندراسخار عام 1983. كان والد عبدالكلام يمتلك قاربًا صغيرًا لتيسير عبور الحجاج الهندوس ذهابًا وعودة بين رامسوارام ودانوشكودى، ويعمل أيضًا إمامًا فى أحد الجوامع الصغيرة. وكان عبدالكلام مغرمًا بدراسة الرياضيات فى طفولته، وبعد تخرجه من جامعة مدراس متخصصًا فى علم الفيزياء انضم عام 1955 إلى «معهد مدراس للتكنولوجيا» ــ إحدى الإبداعات المؤسسية الهامة لعصر نهرو ــ ليدرس هندسة الفضاء. وفى عام 1958 التحق بهيئة البحوث والتطوير التابعة لوزارة الدفاع الهندية، وبعدها بخمس سنوات تم ضمه إلى هيئة بحوث الفضاء الهندية. وفى بداية الثمانينيات من القرن الماضى كلفته إنديرا غاندى رئيسة الوزراء الهندية ــ ابنة جواهر لال نهرو ــ بقيادة المشروع الوطنى للهند لتطوير منظومة الصواريخ العابرة للقارات. واستطاع عبدالكلام وفريقه من الباحثين والعلماء والمهندسين خلال أربعة عشر عامًا من الجهد العلمى والإبداع التكنولوجى تطوير خمسة أنواع من الصواريخ منها الصاروخ الاستراتيجى «أجنى» العابر للقارات، ليطلق عليه لقب «رجل الهند للصواريخ». وفى مشروعه PURA لتطوير الريف الهندى حتى 2020، قدم تصوره عن مجموعات عنقودية من القرى «المتصلة معرفيًا» عن طريق التعليم وتدريب المزارعين مهنيًا وفى مجال ريادة الأعمال، بالإضافة إلى تحسين خدمات الرعاية الصحية المتكاملة ووسائل الصرف الصحى وشبكات الطرق وشبكة الكابلات من الألياف الضوئية وخطوط الاتصالات التليفونية ذات الحيز الترددى العالى. وتسهم الهند حاليًا بقدراتها العلمية والتكنولوجية المتقدمة فى دعم إنشاء مجمعات صناعية لإنتاج الهيدروجين الأخضر داخل المنطقة الصناعية بميناء العين السخنة المصرى. فقد وقعت مجموعة ACME الهندية مذكرة تفاهم مع الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية لقناة السويس لإنشاء مصنع لإنتاج الوقود الأخضر على مساحة 4.5 مليون متر مربع داخل المنطقة الصناعية بميناء السخنة بحجم إنتاج إجمالى للمشروع يصل إلى 2.2 مليون طن سنويًا من الهيدروجين الأخضر (جريدة الشروق فى 26 أغسطس 2022).
• • •
وبحسب مقال مجلة التايم الأمريكية «التجربة العلمية العظيمة فى آسيا» الذى سبق الإشارة إليه، فإن الإنجازات الصينية فى مجال العلوم والتكنولوجيا تفوق نظيرتها الهندية. فكما يقتبس محبوبانى من المقال: «ففى مجال «استعادة العقول» Brain Gain، عاد إلى الصين مائتى ألف من العلماء والباحثين يمثلون 81% من الأعضاء الحاليين فى أكاديمية الصين للعلوم تم اجتذابهم بمزيجٍ سخى من الحوافز المادية والمعنوية التى قدمتها لهم الدولة الصينية. وقد بدا أثرهم واضحًا فى التقدم العلمى الصينى، ففى الفترة من 2001 إلى 2006 استطاعت مجموعة من هؤلاء العلماء العائدين إلى أرض الوطن أن تحقق نصرًا علميًا صينيًا بتحقيق السبق العلمى على العلماء الأمريكيين واليابانيين فى فك شفرة التسلسل الجينى Genome لدودة القز والدجاج والخنزير. ومن جانبٍ آخر نرى د. شينج هويزن العالمة الصينية فى مجال الخلايا الجذعية والتى عملت أحد عشر عامًا فى المعهد القومى للصحة NIH بالولايات المتحدة الأمريكية، تعود إلى وطنها الأم عام 1999 بعد أن واجهت قيودًا من منظور أخلاقيات البحث العلمى جعلت من استمرارها فى الولايات المتحدة الأمريكية وضعًا مستحيلًا. لتجد حكومة شنجهاى مستعدة لتوفير منحة بمقدار 875 ألف دولار أمريكى لتستكمل أبحاثها الطليعية فى معملها الخاص» (ص 64). وتبدو ظاهرة «استعادة العقول» سمة بارزة من سمات نصف الكرة الأرضية الآسيوى الجديد الذى يقطنه 60% من سكان الأرض، ففى عديدٍ من البلدان الآسيوية الناهضة نجدهم يغذون نهضتهم بتيارٍ متصاعد من مواطنيهم العائدين من الغرب بعد أن أنجزوا تعليمهم العالى فى البلدان الغربية المختلفة. ففى عام 2006، تم رصد عودة خمسةٍ وثلاثين ألفًا من العلماء والباحثين الهنود ليستقروا فى إقليم بانجالور الذى يعد حاليًا وادى السيليكون الجديد فى الهند. وفى فيتنام عاد الآلاف من الباحثين والعلماء بعد تيسيرات سخية من الدولة الفيتنامية لإجراءات عودتهم وإعادة توطينهم. ففى حالة فوك ثان الذى هرب من حصار سايجون عام 1975 على متن مروحية وهو فى الرابعة عشرة من العمر، ليعود عام 1999 كممثل لشركة إنتل الأمريكية للحاسبات الآلية الشخصية بعد أن عمل لديهم لثلاثة عشر عامًا متواصلة، وليساعد الحكومة الفيتنامية فى الحصول على استثمارات بقيمة مليار دولار من إنتل سوف تضيف أربعة آلاف وخمسمائة فرصة عمل جديدة إلى الاقتصاد الفيتنامى الصاعد.
..... وما زال نصف الكرة الأرضية الآسيوى، يواصل كتابة التاريخ
نبيل مرقس باحث بمعهد التخطيط القومي (سابقاً)
التعليقات