«الشعب يريد…» فهل حقا سقط النظام (؟) - أيمن الصياد - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 12:06 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«الشعب يريد…» فهل حقا سقط النظام (؟)

نشر فى : الأحد 9 فبراير 2014 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأحد 9 فبراير 2014 - 8:00 ص

بغض النظر عن صحة أو سياق ما ينشر «بالمخالفة للقانون» من تسجيلات تقول أو تحاول أن تثبت أن كانت هناك «مؤامرة» لإسقاط نظام مبارك، فذلك لا ينفي على الإطلاق حقيقة أن الملايين التي نزلت إلى الميادين في مثل تلك الأيام قبل سنوات ثلاث كانت «حقًا» تريد إسقاط هذا النظام، وأنها، فيما رأينا ورأى العالم كله توحدت يومها حول شعار واحد: «الشعب يريد إسقاط النظام». وبالتالي فإن ثبوت أو عدم ثبوت أن نفرًا قد تآمر أو تخابر (وهذا محله قاعات المحاكم لا الصحف والفضائيات)، لا يعني على الإطلاق أن ما جرى في يناير من حراك شعبي «سانده الجيش» كان جريمة أو مؤامرة أو «نكسة» كما يسميها البعض اليوم. أو أنه قد بات علينا الآن «الاعتراف بالخطأ» والعودة إلى ما قبل يناير، أو إعادة إحياء «نظامه».

  وسط كل هذا الصخب الذي يذهب بالعقول، يبدو أن ما كان بدهيًا بات يحتاج إلى تأكيد.

•••

عندما التقط Dylan Martinez مصور «رويترز» هذه الصورة، كان اليوم الحادي عشر من فبراير، الثامن عشر من أيام ثورة تميزت في ملامحها وصورها وتفاصيلها الصغيرة. وكان الشعارُ الذي أصبح تجسيدًا و «تلخيصًا» لكل الشعارات والمطالب، قد أخذ مكانه «منذ أيام» في صدارة المشهد أصواتًا تهتف، ولافتات تحسم «الشعب يريد اسقاط النظام».

أيامها لم يكن أحدٌ يعرف الى أين ستصير الأمور بين عناد قصرٍ لايريد أن يصدق، وصمود شارع لايمكنه أن يتراجع.

كانت الأجواء على كل صعيد متوترة. كان الكثيرون ــ هنا وهناك ــ لا يعرفون أين يضعون أقدامهم، ان في وسائل إعلام تخبطت رسائلها، أو في عواصم العالم التي لم تكن تعرف ــ أو تصدق ــ الى أين تسير الأمور، فترددت، وتباطأت .. وتأخرت.

وحدُهم الملايين الذين كانوا في الميدان كتلة «واحدة» من البشر؛ بطوائفها وتياراتها وألوانها تحت علم واحد، كانوا يعرفون طريقهم، أو على الأقل كانوا يعرفون مايطلبون: «الشعبُ يريد اسقاط النظام».

قبل أن ينتهي اليوم الذي تباينت الحكايا في تفاصيله، ذهب مبارك، بغض النظر عن التباينات في توصيف هذا الذهاب؛ خروجًا أم إخراجًا، توافقًا أم اتفاقا.. إجبارًا أم امتثالًا للبديل الذي لابديل له. لم يكن هذا وقت التفاصيل على أية حال. فـ «الصندوق الأسود» مازال في أعماق بحر التاريخ العميق. وربما «ليس كل ما يُعرف يُقال.. أو ليس كل مايُقالُ جاء أوانه..» إلى آخر حكمة الإمام علي رضي الله عنه.

أيا ماكان الأمر، وأيا ماكانت التفاصيل، فالرجل «ذهب» مساء ذلك اليوم الذي ردد فيه الملايين؛مسلمين ومسيحيين «دعاءَ القنوت» خلف شيخ ــ رغم شهرته ــ لم يتخيل يوما أنه سيقف من الله والناس هذا الموقف.

خرج الرجلُ إذن غيرَ مصدقٍ «وإن انفلق البحر..» لتحل الأهازيجُ ليلتها محل الهتافات، والأغاني محل الشعارات.. ومن بينها بالضرورة شعار المطلب الأهم؛ الجامع لكل المطالب والشعارات: «الشعبُ يريدُ اسقاط النظام». وكان طبيعيًا ومنطقيًا أن يصبح سؤال اليوم التالي: إن كان مبارك قد سقط ، فهل سقط النظام؟

•••

القارئ لـ «دفتر أحوال» مصر في العقود الثلاثة الماضية لابد وأن يستشعر خطرَ الركون الى إنجازٍ تمثل في إخراج الرئيس، وخطرَ اختزال القضية في «شخص» أو أشخاص. أو في خطوةٍ على أهميتها ليست كافية للانتقال بمصرَ الى عصر جديد. أنا من الذين يعتقدون بعمق «حكمةٍ فطريةٍ» تتبدى في ما ينتجه هذا الشعب عباراتٍ ونكتٍ وأمثال شعبية. والذي يجلس في المقاهي، ويركب المواصلات العامة، ويتصفح الانترنت، سيدرك بالضرورة أن الذي طالب به المحتجون من أسوان جنوبا الى الاسكندرية شمالا، ومن «الشيخ زويد» شرقًا الى الوادي الجديد غربًا لم يكن فقط اخراج الرئيس «على أهميته»، وإنما اسقاط النظام، الذي صنعه الرئيس، أو سمح به؛ تدبيرًا، أو غفلة.. أو بغض الطرف طمعًا أو جهلا. والذي تراكمت ملامحُه على مدى ثلاثة عقود كاملة:

النظام الذي بناه بدأب «كهنةُ الفرعون»؛ يعدلون الدستور عام ١٩٨٠، ليسمح بتأبيد الحكم في شخص الرئيس (السادات وقتها)، ثم ــ لاعتباراتِ المظهر «الخارجي» ــ يُجرون له جراحة تجميلية (في ٢٠٠٥، ثم ٢٠٠٧) لا تُخف رغم المساحيق حقيقة أنها «حيكت» بمهارة تضمن أن «يظل الرئيسُ رئيسا».

النظام الذي خرج ثوار يناير لإسقاطه، هو النظام الذي سمحَ بالإعتداء على القضاة (٢٠٠٦) لأنهم طالبوا باستقلال القضاء. وسمحَ بالإعتداء على أساتذة الجامعات، لأنهم طالبوا باستقلال الجامعات. وكوفئ فيه رئيس جامعة فأصبح وزيرا، لا لشيء الا لأنه سمح للأمن بإحضار «بلطجية» ليعاقبوا طلبة جامعته. وهو النظامُ الذي أسس بقراراته وسلوكه اليومي لدولةٍ «بوليسية» بامتياز؛ تتحكم فيها تقاريرُ الأمن في كل شئ، من تعيين السعاة في المكاتب، وحتى اختيار العاملين في معامل الجامعات. يحكي لي من كان مفتيًا لمصر يومها «وهو من هو» أنه استمر لسنوات غير قادرٍ على الصعود الى المنبر للخطابة (لعدم وجود تصريح أمني). رغم أنه وقتها كان مستشارا لوزير الأوقاف (!)

النظام الذي لم يسمح أبدًا للأحزاب الحقيقية أن تقوم، وإذا أفلتت فقامت بحكمٍ قضائي، عمل على تفجيرها من الداخل. في حين شكل بنفسه ــ استيفاء للشكل والمظهر ــ أحزابًا «كارتونية»، مازالت ــ رغم الثورة للأسف ــ تدعي شرعيةً نعرف جميعا أنها مزيفة. وتحظى بفرصةٍ «رسمية» لاتحظى بها قوى الثورة السياسية «الحقيقية» الجديدة.

النظام الذي طالب الجميع باسقاطه هو ذلك الذي لم ير ضررا في أن تعاندُ الدولة القانون، بتجاهل الأحكام الصادرة بشأن تزوير الانتخابات مثلا، أو الافراج عن المعتقلين، أو احالة المدنيين الى محكمة عسكرية، أو الغاء الحراسة على النقابات المهنية .. الى غير ذلك من قائمة تطول بطول ثلاثين سنة من جبروت نظام لم يكترث سدنته يوما لخطورة أن يتعمق لدى المواطن العادي شعورٌ باليأس من اللجوء إلى التقاضي «سبيلاً سلميًا لحل المنازعات». غير مدركٍين أنه عندما تُغلُ يد القضاءِ في رد المظالم لأصحابها يصبحُ الأمن الاجتماعي مهددًا. كما يصبح مفهومُ الدولة ذاته في خطر.

النظام الذي قضى بفساده وإفساده على قاعدة أن «من جدّ وجد»، بعد أن أصبحت البطالة بسياساته «قدرًا» فقد معه التعليم دوره كأداة مشروعة للحراك الاجتماعي، وبعد أن ضاقت فرص العمل لتصبح حكرا على الوارثين أو على أولئك الذين اشتروا «بأموالهم» فرص تعليم متميز. هل تذكرون «عبد الحميد شتا»؛ ذلك الشاب المكافح المتفوق الذي رفضوا تعيينه ملحقًا تجاريا (٢٠٠٥) رغم حصوله علي المركز الأول بين كل من تقدموا للوظيفة، لا لسبب إلا لأن والده مزارع بسيط. يومها لم يجد الشاب المتفوق أمامه غير الانتحار.

النظام الذي يخرج فيه رئيسُ الدولة في كل مناسبةٍ ليتساءل: «من أين يطعم شعبه»، ثم يفاجَأ أولئك الجياع بأنه كان يعوم على بحر من الفساد والمليارات المنهوبة.

•••

النظام الذي أضاع رصيدا اقليميا ودوليا كانت مصر قد صنعته في سنوات الصعود منتصف القرن الماضي ليتلاشى في الثلاثين سنة الأخيرة. بعد أن حسبت أن أمنها وأمانها مرهون فقط برضا واشنطن. وبعد أن شُغلت، أو بالأحرى انشغلت نخبتها الحاكمة بحسابات المقاعد استمرارا أو استقرارا .. أو «استنساخا جينيا».

النظام الذي لم يتردد (في انتخابات ٢٠٠٥) في اللجوء الى بلطجة سافرة غير مسبوقة، بحماية ــ أو بمشاركة، للأسف ــ من الذين من المفترض أن المجتمع أوكل اليهم ـ بحكم وظيفتهم ـ مهمة حماية أمنه. غير مدرك خطورة أن يشيع في المجتمع مفهوم: أن القوة / العنف هي السبيل «الوحيد» لكي تصل إلى هدفك (حقًا كان أو باطلاً).

النظام الذي لم يتردد أيضا ــ لحساباتٍ سياسية ضيقة ــ في أن يقحم الرقمَ القبطي في حساباتِ السياسة، لعبا بالنار في غير موضعها. (راجع كيف ظلت «الفتنة صناعة رسمية» تخطيطا ومراهنة وتوظيفا – «وجهات نظر» / فبراير ٢٠١٠)

النظام الذي يصبح فيه «نفاق السلطة» أيا ماكانت هذه السلطة؛ رئيسا للجمهورية، أو مديرا للعمل، أو حتى والدا في المنزل، أو قارئا للصحيفة، الأداة الوحيدة للحفاظ على المكان.. أو للفوز بالمكانة. يتساوى في ذلك وزراءٌ وخفراء، ورجالُ دين وسياسة وفكر.. ليبدو الأمرَ كله في نهاية المطاف «ثقافة شعب» أو بالأحرى «ثقافة مرحلة».

نظام لم يبدو مكترثًا يومًا بأنه لم يدع للناس غير اليأس.

•••

النظام الذي خرج الكل يطلبون يومها إسقاطه، هو ذلك الذي كانت سمته الرئيسة هي «السلطة المطلقة» التي هي بالضرورة «مفسدة مطلقة». حين يصبحُ طبيعيًا أن يكونَ كلُ رجال الأعمال ــ تقريبًا ــ منتسبين بالعضوية والمساندة والدعم المالي والإعلانات الصحفية المدفوعة إلي حزب السلطة المطلقة. رغم أنه لم يدّع يومًا ــ فيما نعرف ــ أنه حزبٌ «رأسمالي» ليصبح معه ذلك «الزواجُ شرعيًا». ولكنه ببساطة حزب النفوذ و «السلطة المطلقة»؛ مجموعات من المصالح «المتشابكة» التي تستولي بسلطتها أو بأموالها أو بنفوذها على الإدارة ثم على الحكومة ثم على الدولة كلها. متشابكة خيوطها العنكبوتية. والتي هي مثل كل بيوت العنكبوت لاتتمدد إلا حيث يكون الركود والكمون. بعيدا عن الحركة، وماتستوجبه ــ تعريفًا ــ من تغيير

النظام الذي مازالت أصابعه تلعب بمهارة في «الميدان» ــ تحاول سرقته لحسابها تارة، أو إجهاض حركته «الموحدة» النبيلة تارة أخرى ــ أحزابا «ورقية» قديمة، وساسة بلا سياسة، متلونين ومتحولين ومتسلقين عاشوا حيواتهم كلها ملتصقين بشبكة العنكبوت التي يخشون أن تسقط فيسقطون. بعضهم يحاول أن يجد لقدمه «القذرة» موضعا في نظام جديد ينبغي أن يتطهر. وبعضهم يحاول بغريزة وحش جريح أن ينتقم، غير مبال بأن يكون الوطن ذاته الثمن. وبعضهم يحاول عزل ثورة الشعب عن «مطالب الشعب» بمحاولة الباسها جلبابًا ولحية.

بعضهم خرج من جحوره، وبعضهم يبدو قد جرى اعداده لهذا اليوم.

•••

هذا هو «النظام» الذي خرج الشعب وسقط الشهداء لإسقاطه.. وهذه ببساطة هي ملامح «النظام» الذي إن لم ننتبه، فلست متأكدا أنه «متسللا» لن يعود.

في ريفنا حيث يختبئ الصمت والحكمة في عيون فلاحينا البسطاء، كان الكبارُ يحرصون على تنبيهنا دائمًا الى أنه «لا يكفي أبدا أن تقطع رأس الحية..»

•••

وبعد..

فالهتاف قديم .. والصورة قديمة.. كما أن ما سبق ليس أكثر من سطور من مقال «قديم» كنت قد نشرته في «وجهات نظر» عشية الحادي عشر من فبراير الشهير (قبل سنوات ثلاث) وسط أهازيج واحتفالات رأيتها «مبكرة». ولعلكم تغفرون لي اليوم أن أعود إليه. «فأيام يناير» توقظ ما تبقى في الذاكرة .. وترجونا أن نعيد قراءة «الصور».

أيمن الصياد  كاتب صحفى
التعليقات