غَـــلَبَ - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 8:36 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

غَـــلَبَ

نشر فى : الجمعة 9 يونيو 2023 - 9:05 م | آخر تحديث : الجمعة 9 يونيو 2023 - 9:05 م
في مُعظم ألعابِ الطفولة التي احتضنها رصيفُ البيتِ القديم، كان بإمكانِ الغالبِ أن يختارَ الاستمرار في مَوقعه إن رغبَ فيه، أو أن يتركه للاعبٍ آخر وينضم لبقية الأقران. أحبَبت دومًا أن أكونَ محلَّ السمكِ لا الصياد، والحرامي لا العسكري، وفي الأحوال كلّها محلّ الهارب لا مَن يطارده. هي نزعةٌ لم تتغيَّر بمرور الزمان، فالبُعد عن مركزِ القوَّة غنيمةٌ، والسُّلطةُ عبءٌ يستحقُّ الفرار منه، فإن اختار الغالب في العادة أن يترأس اللعبةَ؛ اخترت أن أكونَ في الجانبِ المُعارِض.
• • •
يرد الفعلُ غَلَبَ في قواميس اللغَةِ العربيَّة بمعنى هَزمَ وقَهرَ. الفاعلُ غالِبٌ والمَفعولُ به مَغلوبٌ، والمصدر غَلَبَة وغَلْبًا، أما المُغالبة فتعني العِراك. المُشتقَّات كثيرةٌ والاستخداماتُ كذلك، والكلمةُ ترد في أحاديثِنا اليوميَّة بوفرةٍ للدلالةِ على وجودِ احتمالات؛ فهناك على الأغلبِ وفي الغالبِ وغلبَ الظنُّ والغالبيةُ العظمى وغيرها من تعبيراتٍ شبيهة، والحقُّ أنه كلَّما جيء بحدثٍ تافه ليحتلَّ المشهدَ العام، فهِمَ الناسُ أنه غالبًا ما سوف تُتخذ قراراتٌ صاعقةٌ في غير صالِحهم.
• • •
يقول المأثورُ الشعبيُّ الأصيل: اللي تغلِب به العبْ به، والمعنى أن اختيار الوسيلة يجبُ أن يرتبطَ بالنتيجةِ المُتوقَّعة منها، فربما بدت بعضُ الوسائلِ رائعةً براقة؛ لكنها عاجزةٌ عن تحقيقِ المُراد، وربما لاحت هينةً مُستحقَرة؛ لكنها تُنجز الكثير. النصيحةُ جادةٌ مُثمَّنة وانتقاءُ الأدواتِ التي تحرز الانتصارَ فنٌ ومهارة، ولا غرابة أن نُخفِقَ كثيرًا ما دمنا نُصِرُّ على أداةٍ أثبتت مرةً واثنتين وثلاثًا فشلها.
• • •
في وَصفِ مِصر قيل: نيلُها عجبٌ، ترابُها ذهبٌ، نساؤها لَعِبٌ، رجالُها طَربٌ، وهي لمَن غَلَب. وَردَت العبارةُ في خُططِ المقريزيّ مَنسوبةً لعمرو بن العاص، ورغم ما فيها مِن مَدائح، فإن المَذمَّات التي تحملها تتغلَّب وتسود؛ إذ تجعل مِن الخُنوع والعبوديةِ خاصيةً ثابتةً تميّز أهلَ مِصر وقاطنيها، والحقُّ أن مثلَ هذا التوصيف يُخاطب ما بالمرءِ مِن مَشاعر سلبِيَّة، تتكاثفُ كلما تدهورت الحالُ وواكبها الصمتُ والركوع؛ لكن حادثةً واحدةً تأتي من حيث لا يحتسبُ أحد، قد تُحيلُ المَغلوبَ على أمره إلى مُتفائلٍ طامحٍ في غدٍ ملؤه الحرية.
• • •
الرياضةُ غالبٌ ومَغلوب؛ لا مَراتِب وُسطى فيها ولا درجات رماديَّة، أما أفعالُ السياسةِ فتحملُ طيفًا عريضًا من الألوانِ والدرجات، وتبدو مُعبأةً بالتقديراتِ، بعيدةً عن الحَسِم والقطع؛ تضمُّ انتصاراتٍ بطعمِ الهزائم، وهزائِمَ باطنها نَصرٌ مُبين.
• • •
في بعضِ الأحيان يفيضُ الكيلُ وتنقطع بالمرءِ سُبلُ التحايل على المَشاق والرزايا التي تصادفه، وكثيرًا ما تُسمَع العبارةُ الشهيرةُ في حوارٍ يائسٍ بائس: يَقطع الغَلْب وسنينه. الحالُ عجزٌ والمراد شكوى واستجارة، فالداعي على الغُلب مَغلوبٌ على أمره، قد نفدت منه الحيلةُ وضاقت به الدنيا.
• • •
إذا ثرثرَ الواحد بما لا طائل منه؛ سَمع ما لا يرضيه، ولإن كان مُحادِثه أعلى منه مكانةً أو أكبر عمرًا أسكته: كفاية غَلَبة. تعكس "الغلبة" هنا مُحاولةَ المُتكلم الانتصار في نقاش يدخله دون أن يملك حجة مقنعة، وما أكثر الغلبة التي نسمعها ثم نتجاهلها ونمضي.
• • •
يوصَف مُتواضع الحالِ بأنه غلبان، وكذلك يوصَف ضعيفُ العقلِ وقليلُ المهارات وفقير المَعرفة. الكلمة غير موجودة في المعاجم؛ لكنها قد تقاسُ على "غضبان" و"جوعان"، فتكون صفةً مُشبهةً تدلُّ على الثبوت. غنَّى الراحلُ أحمد عدوية: يا بنت السُّلطان حنّي على الغلبان، والكلمات لحسن أبي عثمان أما اللحن فلحسن أبي السعود؛ وإذ تلقَّى المُطربُ هجومًا كبيرًا في حينه رغم كثرةِ مُعجبيه؛ فقد ترحَّم عليه المُهاجمون بعدما سارت الأغنيةُ الشعبيَّةُ في أدغالٍ كثيفةٍ، استجلبَت السُّخط والاستنكار.
• • •
شَدَت أم كلثوم في الستينيات بأغنيتها الشهيرة: هو صحيح الهوى غلَّاب، مِن كلماتِ بيرم التونسي وألحان زكريا أحمد. غلَّاب صيغةُ مُبالغة على وزنِ فعَّال، والقصد أن من طبيعة الهوى إلحاق الهزيمةِ بمَن يصارعونه ويكابدون تقلباته، فما مِن مُقاومةٍ لعشقٍ دون أن يُمنى العاشقُ بخسائر.
• • •
ربما يعجز المرءُ عن مُقاومة تعبه ويرفع من فوره الراياتِ البيضاء؛ ويقال حينئذ قد غَلَبَ عليه النوم. لم تعد الحالُ كما كانت عليه في عهود سابقة، فالنوم قد خاصمَ كثيرَ الأعين، وفارقَ الوسائد، وصار ضيفًا نادرَ الحضور، واللائمة لا تجوز إلا على أوضاعٍ أسيفة.
• • •
ثمَّة من يغلبه الخوف أو الإرهاق، ومن تغلِبُ عليه طبيعتُه طيّعةً كانت أو عنيدة. هناك أيضًا لونٌ غالبٌ ومذاقٌ غالبٌ، وإحساسٌ غالب. الغالبُ هو السائد، وما دونه أقل قدرة وتأثيرًا.
• • •
تُعَد قبيلة تغلب من أشهر القبائل التي سكنت شِبه الجزيرة العربية، ويُقال إنها عاشت أيضًا في العراقِ على نهرِ الفرات، وشاركت في حَربِ البسوس، وإليها ينتمي كليب بن ربيعة وشاعر المُعلقات الأشهر عمرو بن كلثوم، أما اسمُ القبيلةِ فيُنسَب إلى مُؤسّسها تغلب بن جديلة بن معد بن عدنان.
• • •
مهما تعلمَ الفرد وبدَّل من سلوكه وغيَّر طباعِه؛ عاد إلى سيرتِه الأولى في المواقف الصعبة، فالطبع غلَّابٌ ولا جدال أنه يغلبُ التطبُّع، والناس إلى الأصلِ دومًا يعودون، والمأثور الشعبيّ الطريف يقول: غلبت أحايل فيك والطبع فيك غالب، ذيل الكلب عمره ما ينعدل، ولو علقوا فيه قالب.
• • •
من أصدقِ أبياتِ الشّعر وأكثرها تعبيرًا عن الواقع ما أنشد أحمد شوقي: وما نيلُ المَطالبِ بالتمنّي؛ ولكن تؤخَذ الدنيا غلابًا.. وما استعصى على قومٍ منالٌ؛ إذا الإقدامُ كان لهم ركابًا.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات