شتاء الأطفال والأجداد - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 7:54 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شتاء الأطفال والأجداد

نشر فى : الخميس 10 يناير 2019 - 4:05 ص | آخر تحديث : الخميس 10 يناير 2019 - 4:05 ص

على رأس الجبل كوخ سقفه من القرميد الأحمر، يخرج من مدخنته دخان يشق سماء الشتاء الزرقاء بلونه الرمادى. داخل الكوخ سيدة عجوز تحرك شيئا وضعته فى قدر على النار. تحدث ملعقتها الخشبية صوتا يتردد فى أرجاء الغرفة الدافئة. فى الخارج آثار عاصفة ثلجية فرشت سجادا أبيض على مد البصر حتى أن الطريق الصغير المؤدى إلى الكوخ اختفى تماما وكأن أحدهم قد وضع البيت وسط البياض دون أن يفكر بالتفاصيل اليومية: طريقة الخروج من المنزل والوصول إليه، شراء لوازم الطبخ، غسل الثياب وتجفيفها وغيرها من الأمور التى تشغل أى شخص فى أى بيت. أما السيدة العجوز، فهى تعيش يومها بطقوسه الشتائية غير آبهة بالعاصفة خارج منزلها أو بطبقة الثلج التى التحفت بها الدنيا خارج شباك الكوخ.

المشهد متخيل، حتى لو أنه متكرر فى قصص الأطفال وفى البطاقات البريدية التى تحمل صورة من جهة ومكانا للكتابة من الجهة الأخرى. هى صورة نمطية عن الشتاء يلجأ إليها الكثير منا عند الشعور بالبرد أو بالأحرى عند الشعور بالدفء داخل البيت فى يوم شديد البرد خارجه. لم يعش الكثير منا على الأرجح فى كوخ على رأس الجبل كما أصوره هنا، كما أغلب الظن أن معظمنا لم يجد نفسه عالقا وسط عاصفة ثلجية شلت حركته ونجا منها بأعجوبة. الحمد لله على كل حال أن هذه الصور، الرومانسية منها والمرعبة عن الثلج والشتاء هى من وحى الخيال عند الكثيرين.

***
فى الحقيقة، يتحرك معظمنا هذا الأسبوع داخل بيوتنا وأماكن عملنا محاولين الإمساك بأشعة الشمس التى تتسلل عبر الشبابيك، فى اليد كوب من مشروب ساخن يعلوه دخان خفيف ورائحة تدل على محتواه. أحاول أن أتذكر مشروبات الشتاء فلا تحضرنى سوا رائحة السحلب مع القرفة. أرى ساحة صغيرة على ناصيتها محل مضاء بقوة بمصابيح معلقة على سلك الكهرباء. يقف البائع أمام قدر عملاق يحركه بخفة وسرعة وهو يروج للسحلب: «سحلب سخن، سحلب بحليب». الجو ماطر وفى السيارة الصغيرة انحشر أطفال بانتظار عودة والدهم من المحل، ها هو يشترى السحلب.

هذا المشهد أيضا متخيل، على الأقل اليوم، إذ لم أره منذ سنوات، جزئيا لأننى لم أعد تلك الطفلة التى تنتظر السحلب فى السيارة، وجزئيا لابتعادى عن المدينة والساحة. هو منظر يعود إلى الحياة فى المطبخ فى بيتى القاهرى حين يغلى السحلب فى قدر على النار، ثم حين أرش على وجهه رشة قرفة. أصبح فى آن واحد الطفلة التى تنتظر أبيها والسيدة الكبيرة التى لا تنتظر أحدا فى بيتها على رأس جبل متخيل. فى القصتين أداوى البرد برائحة السحلب والقرفة، قد تكون رائحة القرفة فى الشاى أيضا على فكرة. لا يهم طالما القرفة عنصر رئيس فى القصة، فهى من شأنها أن تخلط صورا كثيرة من أزمان وبلاد مختلفة ثم ترمى فى وجهى وجوه أشخاص لم أفكر فيهم منذ سنوات.

هى أيضا محاولة منى أن أخزن فى ذاكرتى صورا سوف أحتاجها فى المستقبل، كصورة أطفالى بعد أن أطفئ الضوء فى غرفتهم وأسمع ضحكاتهم الخافتة فأنهرهم وأنا أكبت ضحكتى. أو صورة طفلتى وهى نائمة تهذى بكلمات غير مفهومة فأقاوم رغبتى بأن أوقظها لأسألها عن حلمها. أربط الصور بروائح ورثتها عن أجيال سبقتنى وأكلت السحلب فى الشتاء بعد أن رشت بعض القرفة عليه فكحلت وجهه الأبيض فى مساء يوم بارد.

***
للشتاء قدرة عجيبة على إلغاء كل من تتراوح أعمارهم بين العشر سنوات والستين سنة، هم يسقطون من تصورى للشتاء، تاركين المساحة للأطفال ولمن هم بعمر الأجداد والجدات يملؤونها بصورهم وأصواتهم. يقفز أطفال فى برك المياه التى تجمعت على طرف الشارع، يتقاذفون كرات الثلج، يعودون إلى بيوت أجدادهم، لا أعرف لماذا لا يدخلون إلى بيوتهم إنما فى مخيلتى لا يتسع فصل الشتاء سوى للأطفال والأجداد، يجلس الصغار فى حضن الكبار تحت لحاف كبير يضمهم معا، ويحكى الكبار قصصا عن أشجار سحرية تنمو فتصل إلى السماء، وعمالقة يظهرون من فوانيس. يستمع الصغار بشوق ويسألون عن سبب كره زوجة الأب للطفلة.

***
لا يوجد فى تصورى للشتاء رجال ونساء فى العشرينات أوثلاثينات أو الأربعينات أو حتى الخمسينات. هؤلاء يختفون من فصل يمنح فيه من هم فوق الستين دفئا وقصصا لمن هم دون العشر سنوات، وكأن ساحرة قد أخفت كل من بينهم من الوجود تماما. هو فصل مخصص لقصص الأطفال ولدلال لا يتذوقوه إلا عند الجد والجدة. هو فصل لا صورة عندى فيه لأجيال تمارس روتينها اليومى من العمل والشؤون المنزلية، هؤلاء لا شتاء لهم فى مخيلتى. الشتاء هو لكرسى كبير يجلس عليه عدة أشخاص بتوازن لا يمكن الحفاظ عليه دون الكثير من الحب. الشتاء هو رائحة سكرية تداعب الأنوف قبل أن تستقر طعمة القرفة فى الأفواه. هو فصل قصص لا تنتهى وقبلات تستقر على الرؤوس دون حساب.

***
تتحول الشقة فى المدينة إلى بيت صغير على رأس الجبل، والسيدة تحرك قدرا سوف تصب منه أطباقا من الحب تضعها أمام طفلة اختارت أن تمضى يوما باردا فى حضن دافئ. هذا هو تصورى للشتاء، تعطره رائحة القرفة.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات