هل كانت أم كلثوم تطير؟ - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 4:45 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هل كانت أم كلثوم تطير؟

نشر فى : الأربعاء 10 فبراير 2010 - 7:42 م | آخر تحديث : الخميس 11 فبراير 2010 - 10:39 ص

 فجأة اكتشفت أننى انشغلت كثيرا عمّن أحب وعمّا أُحب، واكتشفت أن انشغالى كان سببا فى الشعور بشىء ثقيل ومعتم يجثم على صدرى، وأن هذه الحالة ليست حالة خاصة، بل هى حالة عامة وقرينة العيش فى ظل أى نظام فاشل ومستبد فى أى مكان من العالم، فهذا القهر النفسى العام الذى يمارسه مثل هذا النظام، يتحول إلى قوة عمياء ومظلمة، تنتزعنا من الواحات الخضراء الضنينة فى الحياة، وتلقى بنا فى صحرائها الشاسعة القاحلة، ولا نكتشف أننا نجف ونموت إلا بعد فوات الأوان، والحب بلا شك واحة من واحات وجودنا الإنسانى الأكثر خضرة والأطيب ثمرا والأجمل أزهارا.

الحب فى الأرض بعضٌ من تخيلنا، إن لم نجده عليها لاخترعناه، هذا ليس مجرد بيت شعر لنزار قبانى، إنه قانون نفسى يمكن أن أقيم عليه الدليل ببحث مطول عما يُسمّى فى علم النفس والطب النفسى «الآليات الدفاعية»، لكننى لا أرى ضرورة لذلك، فالحِس الإنسانى السوى والعادى يمكن أن يصل إلى ذلك دون شروح ولا مَراجع، لكننى أود أن أضيف إلى هذا القانون الشِعرى النفسى تكملة تقول: وإن فشلنا فى إيجاده أو اختراعه أو عجزنا عن تخيله، لمتنا موتا نفسيا يتبعه موت عضوى أو حتى موات فى الحياة. وأنا أعتقد أن الجزء الأكبر والأجمل فى كل قصص الحب لا يتعلق بالجمال المادى للمحبوب، بل الجمال الذى تضفيه مشاعر المُحب على صورة المحبوب فى داخله.

ومن هنا يتقدم نوع من المُعالِجين النفسيين العِظام، ليدعموا قدرات قلوبنا بقيمة مضافة من الجمال تكتنف وتحيط أخيلتنا التى تخبئ صورة المحبوب المُختَرَعة، أو الواقعية، فى الأركان الخفية من أعماق قلوبنا.

وهؤلاء المعالجين العِظام عندى هم عبدالحليم وفيروز وعبدالوهاب وليلى مراد ونجاة على، وأم كلثوم التى أُفرِد لها مكانة خاصة، لأنها تحولت من موحية ومحفِّزة للحب، إلى محبوبة بذاتها ولِذَاتها، وأرعبنى أن أكتشف انشغالى عنها، فقد مضت أسابيع طوال دون أن أصفو لسماعها، وجعلنى هذا الاكتشاف انتبه للعام فى الخاص، للشقاء الإضافى الذى تُثقل به على حياتنا أنظمة الحكم الشقية تلك، التى تسرق منا رضا الحاضر، وطمأنينة المستقبل، فتروِّعنا مرتين، مرة على أنفسنا، وأخرى على أولادنا، وتجعلنا فى حالة اشتباك مستمر مع دناءاتها التى نكره، فننسى أن نتشبث بسيرة الحب التى تُنقِذ ما تبقى من أرواحنا، وهل للحب سيرة أروع مما شدت بها أم كلثوم؟

لم يحدث أن تولّعت بأم كلثوم إلا على كبَر، ويبدو أننا كلما كبرنا صرنا رومانسيين أكثر، وفى رومانسية هذا العمر أعدت اكتشاف أم كلثوم، شدوها الذى يُرْهِفنا رهافة شمس الأصيل، فيرقُّ الحبيب ويواعدنا، يجعلنا بسلام وسلامة النفس نبتدى، فترد علينا الدنيا بالسلام. وليس شدوها فقط، بل رحلتها الإنسانية بالغة التأثير، من فلاحة صغيرة فقيرة، إلى كوكب بديع ينير على أرض الشرق، وبالأخير.. أم كلثوم كلها، القيثارة البشرية، ومعنى الأنوثة المُشِعّة، بلا تبرُّج ولا ابتذال، وصغيرة القدمين أيضا، وياللغرابة..

كان ذلك فى مساء شتوى عذب وبديع الصفاء فى قصر المانسترلى، حيث مقياس النيل ومتحف أم كلثوم، لم أُطل التأمل تحت قبة المقياس الرائعة، وأسرعت أغوص فى دهاليز متحف أثيرتى، وإذا ببريق فضى يوقفنى مذهولا أمام خِزانة زجاجية، كان ذلك حذاء لكوكب الشرق مع حقيبة يد من الجلد فضى اللون نفسه. وبرقت فى ذهنى وصية يحملها عنوان كتاب اسمه «إياك والزواج من كبيرة القدمين»، وهو موسوعة ضخمة للباحثة الألمانية «م. شيبر» نشرتها الشروق عن النساء فى أمثال الشعوب، وفى الجزء المخصص للأَقدام، حذّرت أمثال شعوب عديدة من الاقتران بكبيرة القدمين، لأنها ستكون غالبا «القرين الذكر» للرجل !

كانت قدما أم كلثوم التى يشى بها مقاس حذائها الفضى صغيرتين بدرجة مذهلة، ولقد مكثت ولا أزال مدهوشا بمدى صغر قدمَىْ أم كلثوم، وهى مفارقة لا معقولة لسيدة قضت أكثر من نصف حياتها الزاخرة واقفة على قدميها، خاصة فى حفلاتها التى كانت تسهر ويسهر الناس فيها حتى الفجر، وهى لم تكن ترتدى حذاء صينيا حديديا ليعيق نمو قدميها،

والمعروف أن أقدامنا تكبر فى النهار بنسبة 10% عندما تحمل ثقل أجسامنا وكَدّ خُطانا على الأرض فتحتقن بالدماء، وتعود تصغر عندما نأوى إلى مخادعنا فى الليل فيخف عنها الحِمل وينزاح الكد ويتلاشى الاحتقان. لهذا يوصى العارفون ألاّ نشترى أحذيتنا الجديدة فى الصباح الباكر حتى لا نجدها فى المساء أضيق مما تصورنا. فما سرّك يا ثومة؟

لم أكف عن سؤالها مرات عن سر صغر قدميها إلى هذا الحد المدهش وأنا غارق فى نشوات شدوها الكونى البديع، حتى وصلْت إلى إجابة قد تبدو للبعض لا معقولة، وأراها منطقية تماما بمقياس كل ماهو استثنائى فى الحياة، وهل كانت أم كلثوم شيئا غير ظاهرة استثنائية من ظواهر الحياة فينا وعندنا؟ لقد كانت استثنائية بكل المقاييس، ومن واقع استثنائيتها هذه أرى أنها كانت فى شدوها ترتفع عن الأرض، فتتخفَّف القدمان من ثقل الجسد وكد الخطو ولا يكون احتقان!

نعم كانت أم كلثوم ترتفع عن الأرض، وهى تصعد فى شدوها، فلم يكن شدوها إلا صعودا لا هبوط فيه طوال عشرات الأعوام.

هذا هو تفسيرى، خذوه كمغزى، اعتبروه مجازا، أما أنا فأعتقد فى واقعيته واقعية كل خوارق الوجود التى يجود بها الخالق على بعض مخلوقاته. وأم كلثوم كانت استثناء مؤكَدا، فكان شدوها يحملها ويخفف الحِمْل عن قدميها، فمكثتا قدمَىْ صبية تواصل طيرانها عبر السنين. وكم نحن فى زمن القعود هذا أشوَقَ ما نكون إلى بعض الطيران !

معظم هذا الضجيح الذى يسمونه غناء من حولنا الآن ليس إلا دبيب أقدام ثقيلة على الأرض، أقدام راقصة أو رافصة، كلها أقدام ثقيلة، لأن البشر عندما يتقافزون يهبطون على أقدامهم بأضعاف أوزانهم الفعلية فتتضخم مع الوقت. ونحن نعيش فى زمن النِعال الكبيرة، إلاّ مَنْ رحمَ ربى، ونحن فى حاجة لأن يرحمنا ربنا ببعض الطيران فوق أرض الديناصورات والإحباط والبلادة والغفلة، لابد من بعض الطيران، وإلا وجدنا أقدامنا تغوص بنا عميقا فى مستنقعات هذه الأرض فتحفر لنا مقابر تدفننا غرقى!

أريد أن أطير بعض الوقت بعيدا عن ربقة الهجاء السياسى الذى نحن مرغمون عليه إزاء أنظمة غليظة ثقيلة تسحق أيامنا ومستقبل أولادنا، أريد أن أدير ظهرى أحيانا لكل هذه الفظاظة التى لا مفر من مواجهتها، وأُوَلِّى وجهى بين الحين والحين لشدو ثومة، أو غناء كتاب جميل، أو نظرة إلى أعجوبة عِلم، أو مأثرة فن، أو جلال مشهد طبيعى رسمته يد القُدرة.

أريد ألا أنشغل إلى هذا الحد عمّن أحبهم وعمّا أحبه، أريد أن أرنو إلى مستقبل يتلاشى فيه سحق الأحذية الثقيلة والمتنفذين والفاسدين الغِلاظ. لابد من بعض الطيران، حتى لا تنحط أرواحنا بأثقال العراك المرير مع الدناءة على الأرض، وهو اشتباكٌ واجبٌ بلا شك، لكن فى بعض الطيران ترياق للنفس، وإكسير للاستمرار.
فهيّا، ولو قليلا.. قليلا نطير!






محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .