بين الحربين.. أيظن الدب ألّا يغلبا! - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 12:35 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بين الحربين.. أيظن الدب ألّا يغلبا!

نشر فى : الجمعة 10 فبراير 2023 - 8:20 م | آخر تحديث : الجمعة 17 فبراير 2023 - 2:47 م
كتبت الحرب العالمية الأولى (١٩١٤ ــ ١٩١٨) بما خلفته من دماء ودمار وإنهاك اقتصادى واجتماعى ونفسى وفوضى سياسية نهاية حقبة السيطرة الأوروبية على العالم التى امتدت من القرن السادس عشر إلى القرن العشرين وتمثلت ذروتها فى اقتسام إمبراطوريات وممالك القارة العجوز لأصقاع الأرض خارجها فى مؤتمر برلين ١٨٨٤. وتواكب مع التراجع الأوروبى، فكريا وثقافيا وفنيا، تصاعد أصداء الأصوات الناقدة للنموذج الغربى للتقدم والمحذرة من أفوله والباحثة عن إجابات لتناقضاته الكثيرة (الدمار والبناء، القتل والعلم، الآلة والإنسان) فى خبرات حضارية أخرى.
حين صمتت مدافع الأوروبيين وغادر الجنود الأنفاق والمخابئ غير خائفين من الموت بفعل انبعاثات الأسلحة الكيماوية فى ١٩١٨، كانت هيمنتهم على الاقتصاد العالمى وخطوط التجارة والملاحة تتراجع لصالح قوة صناعية وعسكرية بازغة كالولايات المتحدة الأمريكية التى شرعت فى مد شبكات نفوذها برا وبحرا وفتح أسواق جديدة لمنتجاتها وبناء قواعد لسفنها، وأيضا لصالح قوة إقليمية ذات قدرات صناعية وعسكرية متطورة كاليابان التى تمكنت آنذاك من النمو السريع والتصنيع واسع النطاق. وإذا كانت الولايات المتحدة قد تحولت فى إدراك الأوروبيين من أرض لمستعمراتهم الاستيطانية فى العالم الجديد إلى دولة مستقلة وقوية ذات ثروات طبيعية هائلة وقدرات تصنيعية كبيرة مع نهايات القرن الثامن عشر وصارت محسوبة كإضافة حقيقية إلى النموذج الغربى للتقدم فى القرن التاسع عشر والقرن العشرين قبل أن تصبح قائدته بحلول الخمسينيات، فإن نجاحات التجربة التنموية اليابانية فى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر والعقود الأولى للقرن العشرين أثبتت للأوروبيين أن فرصا للتقدم حاضرة بعيدا عنهم وأن دولا كاليابان تقع خارج قارتهم ولم تسقط لتكالبهم الاستعمارى تستطيع أن تشق طريقها باستقلالية نحو النمو والتصنيع ونحو أسواق العالم (وقد تناول الصديق نبيل مرقس، فى مقالة نشرتها فى ٢٠ يناير ٢٠٢٢ جريدة الشروق، مسألة النموذج التنموى فى اليابان بالقراءة المعمقة تحت عنوان «البيروقراطية التنموية.. ظاهرة يابانية»).
غير أن نجاحات الولايات المتحدة بعيدا عن القارة العجوز واليابان فى آسيا لم يتلقفها فقط الأوروبيون القلقون بشأن واقعهم ومستقبلهم بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، بل تلقتها بإيجابية بالغة الشعوب التى كانت تئن تحت وطأة استعمار «الرجل الأبيض« وتكافح من أجل تقرير مصيرها والانعتاق من سيطرة الأوروبيين عليها ونهبهم لمواردها وسلك طريق مستقل نحو التقدم.
خارج أوروبا، نظر إلى الولايات المتحدة بين الحربين على نحو مثالى كقوة عالمية جديدة تؤيد القضاء على الاستعمار والحق فى تقرير المصير وتدافع عن التجارة الحرة عوضا عن علاقات النهب والاستغلال. وكانت المبادئ الأربعة عشر التى أعلنها الرئيس الأمريكى وودرو ويلسون قبل مشاركته ومشاركة بلاده فى مؤتمر باريس للسلام (١٩١٩) ومعاهدات السلام بفرساى (١٩١٩) وتضمنت الإدارة السلمية للعلاقات الدولية وحرية التجارة والملاحة وإلغاء الحواجز الاقتصادية وتخفيض التسلح وإعادة تعمير أوروبا والإدارة العادلة للمستعمرات حتى يتحقق تقرير المصير وضمان حقوق القوميات المختلفة دون اضطهاد، كانت هذه المبادئ مصدرا لإلهام الشعوب الآسيوية والأفريقية وشعوب أمريكا اللاتينية فضلا عن عديد الأوروبيين الذين كانوا إما يأملون فى الحرية والاستقلال بعد انهيار بعض الإمبراطوريات والممالك فى الحرب الأولى (القوميات السلافية فى مناطق وسط وشرق أوروبا التى حكمتها قبل ١٩١٨ إما الإمبراطورية النمساويةــالمجرية أو الإمبراطورية العثمانية أو تقاسمت أراضيها كما فى حالة بولندا المملكة الألمانية وروسيا القيصرية والدولة السوفيتية التى ورثتها) أو يريدون الحفاظ على ما تبقى لهم من الأراضى والكرامة الوطنية بعد الهزيمة فى الحرب (ألمانيا والنمسا والإمبراطورية العثمانية بعد الهزيمة كأمثلة على تعويل المهزومين على مثالية وعدل مبادئ ويلسون).
وعندما تمخضت مفاوضات السلام بباريس وفرساى عن تحايل المنتصرين فى الحرب من الأوروبيين على مبادئ تقرير المصير وحق القوميات المختلفة فى الاستقلال، وحين تمكن البريطانيون والفرنسيون من الالتفاف على مبادئ ويلسون واحتفظوا بمستعمراتهم خارج أوروبا وحملوا المنهزمين فى الحرب كامل المسئولية عنها وألزموهم بمفردهم (خاصة ألمانيا) بتعويضات كبيرة؛ لم يغير ذلك بين الحربين من النظرة الإيجابية خارج أوروبا وداخلها إلى الولايات المتحدة الأمريكية كقوة جديدة ترغب فى نشر السلام والعدل والمساواة والتقدم فى العالم ومتجردة من النزوع الاستعمارى وصاحبة نموذج للتقدم مختلف عن إمبراطوريات وممالك القارة العجوز. ولم تتغير النظرة الإيجابية هذه، إلا حين وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وتبلورت قيادة واشنطن للمعسكر الغربى وتوظيفها لأسلحتها المتطورة وصناعتها المتقدمة وتجارتها الواسعة للهيمنة على مقدرات الشعوب (ما صار يطلق عليه فى أدبيات العلوم السياسية إما ظاهرة الاستعمار الجديد وإما ظاهرة التبعية).
لم تتغير النظرة الإيجابية هذه، إلا حين شرعت الولايات المتحدة فى الوقوف فى وجه رغبات تقرير المصير والاستقلال فى مناطق عديده بحجة مكافحة الشيوعية ومناهضة المعسكر الشرقى الذى تزعمه الاتحاد السوفييتى آنذاك، وتورطت فى حروب توسعية وهجومية شهدت ارتكاب جرائم مفجعة (حروب فيتنام وعموم الهند الصينية نموذجا)، وإطلاقها لسباقات تسلح متتالية استنزفت موارد وطاقات بشرية احتاجت إلى السلم والتقدم والتنمية وليس الحروب وعسكرة العلاقات بين الشعوب والدول، سباقات تسلح بدأت بصناعة الأمريكيين للقنابل الذرية وإلقائها على رئوس اليابانيين فى ١٩٤٥ ولم تتوقف إلى يومنا هذا.
أما نجاحات اليابانيين فى الثلث الأخير من القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين وبين الحربين وقبل أن يتورط الجيش اليابانى فى حروب توسعية واستعمار لمناطق فى جواره الآسيوى فى الثلاثينيات والأربعينيات، فقد حدثت فى أوج شكوك الأوروبيين فى نموذجهم وخوفهم من المستقبل. حدثت، وبعض المفكرين يفندون بين الحربين عناصر الأفول والهدم الذاتى داخل الحضارة الغربية كالألمانى أوسفالد شبنجلر (١٨٨٠ ــ ١٩٣٦). حدثت، وبعض المفكرين يشرحون أسباب عنف النموذج الغربى للتقدم واستخفاف المجتمعات الأوروبية بالحروب والدمار والإبادة ومقومات الانحطاط والدمار الذاتيين كالفيلسوف الألمانى أيضا كارل لوفيت (١٨٩٧ــ١٩٧٥) الذى مثلت اليابان بالنسبة له نموذجا للتحديث والتصنيع المتوازنين ولحماية المجتمع والثقافة قيما وطرق حياة من خطر الانحطاط الذى أمسك بأوروبا بسبب إفراطها فى المادية. وكانت النتيجة ظهور ولع أوروبى باليابان وبتاريخها وثقافتها ولغتها، وبحث فى أسباب صعودها ونموها صناعيا وعسكريا ترجمته أكاديميا وجماهيريا دراسات وكتابات كثيرة عن اليابان بين الحربين.
وخارج أوروبا، فى آسيا وافريقيا، كانت نجاحات اليابانيين ينظر إليها بفخر ارتبط بتقدم شعب شرقى له تاريخه وثقافته ولم يستسلم للاستعمار وتمكن بقيمه ومؤسساته التقليدية والحديثة من النمو والتصنيع دون فقدان هويته. وكان انتصار اليابان فى حربها مع روسيا القيصرية (١٩٠٤ــ١٩٠٥) مدعاة لاعتزاز كثير من المفكرين والكتاب والمثقفين الشرقيين (قصيدة حافظ إبراهيم فى تمجيد انتصار اليابانيين ومن بين أبياتها «نسلخ الدب ونفرى جلده.. أيظن الدب ألّا يغلبا) ولانتشار الدعوة إلى الوحدة الآسيوية (فى الهند تحديدا حيث ارتبطت بمقاومة الاستعمار وحركة التحرر الوطني) وإلى مقارعة أوروبا التى هزمت إمبراطوريتها الروسية على يد اليابان ثم تولت هى هزيمة نفسها بنفسها فى الحرب العالمية الأولى.
بين الحربين، كانت شعوب أوروبا تدرك عمق أزمة نموذجها للتقدم وتبحث عن بدائل «للأفول الغربي« وكان العالم خارجها يبحث أيضا عن الانعتاق من استعمار الرجل الأبيض وعن نماذج بديلة للتقدم دون عنف وحروب وإفراط فى المادية.
عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات