تحذير: مقال غير تربوى بالمرة، غير تعليمى وغرضه تخليد ذكرى «كتكوتى البمبى» الذى مات فى إحدى ليالى امتحانات الثانوية العامة، ما حدث فى امتحان الكيمياء بالثانوية العامة هذا العام استحضر ذكريات تلك المرحلة فى حياتى، وكان غرضى كتابة مقال عن نمط اختيار مادة الكيمياء تحت مسمى «مسك العصايا من النص» لنضمن مع أى مجموع الاستمرار فى شعبة علمى سواء «رياضيات» أو «علوم» فى الصف الثالث.
كنت أحب مادة العلوم دوما، وأتذكر كافة التجارب التى أجريناها فى المعمل خلال المراحل الدراسية، وهى ليست كثيرة بالمرة، ولكن من تجربتى فى الصف الأول الثانوى، لم أحب مادتى الفيزياء والكيمياء، فقط الأحياء التى وقعت فى غرامها، ولولا الرأفة التى حصلت عليها مثل شريحة كبيرة من الطلبة، لكنت باقية فى الصف الأول لعام آخر.
فى عام ٢٠٠٢، كنت حينها فى الصف الثانى من الثانوية العامة، وأعتبر امتحان الكيمياء حينها من الأصعب على الإطلاق، ولكنى لم أتفاجأ أنى لا أعرف إجابة أى سؤال فيه ليس لصعوبته ولكن لأنى لم أبذل أى مجهود يُذكر فى المذاكرة، ورفضت أن أغش من صديقة طفولتى التى بفضل اسمها كانت رفيقة تخت المدرسة، ولجان الامتحانات، فيما عدا أنها كانت متفوقة عنى، وتخرجت هى فى كلية الفنون الجميلة.
لم أكن أحب الدراسة بشكل عام، وفى الثانوية العامة كان نفورى من التعليم قد وصل إلى ذروته، بسبب ضغط والدىَّ أن ندرس أنا وأشقائى شعبة علمى ليضمنا حصولهما على ألقاب مثل «أبو الدكتورة» و«أم الدكتور»، ولكن أجهضت أحلامهم بتخرجنا فى كليات الآداب والتجارة.
• • •
يشغلنى الموت بالأساس منذ طفولتى على الرغم من عدم تعرضى المباشر لوفاة مُقرب إلا فى المرحلة الجامعية عندما توفى جدى لأمى، ولكن التربية المسيحية مُشبعة بقبول الموت والتضحية بالحياة، تشجعنا النشأة على أن نستقبل الموت بفرح لأنه تذكرتنا للدخول فى حضرة الله، صورة رومانسية روحية، لها علاقة بفكرة الولادة من جديد، فمن خلال الموت نجد الحياة، وأنا كنت طفلة معنية بالتفاصيل وكثيرة الأسئلة، ولم أستعب فكرة الزهد مقابل الخلود، بالإضافة إلى كونى طفلة «عيوطة» عاشقة للحيوانات.
كنت فى السادسة عشرة عندما اشترت لنا أمى ــ أنا وشقيقى ــ عددا من الكتاكيت الملونة المكتوب عليها الموت سريعا، وأخبرتنا أن مصيرهم محتوم، لم أهتم بكلامها لأنى كنت سعيدة بوجودهم معنا، سخر والدى منهم ومما أسماه بتأخرنا الذهنى وانشغالنا فى خضم الثانوية العامة بتربية كتاكيت، لم أكترث لتأنيبه، ولكن وفاة الواحد تلو الآخر سبب لى ألما نفسيا وتعرفت للمرة الأولى على شعور العجز عن إنقاذ الأحباب من الموت، وأحسست بالذنب والتقصير.
نجا كتكوت واحد لم يكن قد نفض زغبه الوردى بعد، فأكد لى والدى أن الموت قريب منه، بالإضافة إلى أنه لا يمكن أن يعيش بدون وليف، صمد الصغير، وحصل على اسم «بوبى»، ونجح فى أن يتخلص من زغبه وظهرت ريشته الأولى فى جناحه، وكان بالنسبة لى بمثابة معجزة، فهو كلب فى هيئة طائر، يستمع إلى صوتى ويأتى راكضا ويبقى بجوارى، ويجلس فى صمت داخل درج المكتب عندما أدعى أنى أذاكر، وأنا فى الحقيقة أقرأ الكتب من مكتبة والدى برفقة كتكوتى.
لم يعد بوبى كتكوتا بل صار فرخة صغيرة، وكنت أعامله بصيغة المذكر، ومهمومة بمستقبله كحيوان أليف، وعندما أخبرتنى أمى بعدم إمكانية بقائه برفقتنا عندما يصير فرخة مكتملة، كاد أن يُغمى علىَّ وأنا أتصور صغيرى على مائدتنا محاطا بالملوخية والأرز، حتى اليوم الذى استيقظت فيه وكان بوبى غير قادر على المشى، بكيت وشعرت بالهلع وسألت والدى عما يحدث له، فقال لى بوضوح «بيموت عادى زى الباقيين».
كنت قد تصورت أن معجزة بوبى سوف تستمر حتى يموت مسنا، لكنه فى خلال ساعات كان قد فقد قدرته على الحركة، وحدث هذا فى ليلة امتحان الكيمياء حتى صححت لى شقيقتى إنه مرض ومات ليلة امتحان اللغة العربية، تصويب أختى الدليل على أن مواد الثانوية العامة لا تشكل فى الذكرى لدىَّ سوى شىء عابر.
فى تلك الأمسية تعرفت على مقدار من الألم وأنا أراقب أنفاسه الأخيرة، لم يكن لدى أى خبرة عنه، وسط سخط والدى ودعائه لى بالهداية والعقل، كان يتحرك حولى فى الشقة بينما أجلس أنا فى الصالة وفى حضنى «بوبى» وأسمع الهمهمات الصادرة منه «حسبى الله ونعم الوكيل.. يعنى يا ربى عندى عيال متخلفة عقليا.. هيضيعوا الثانوية العامة عشان كتكوت».
مات بوبى ورأيت الجسد الهامد بعد أن فارقته الحياة، وتعرفت على تبريد الموت للأطراف، لأن قدمىّ صغيرى كانتا قد تجمدتا، بكيت حتى انخلع قلبى، ثار والدى وأصر على إلقاء الكتكوت من البلكونة، ولكنى رجوته أن يدفنه فى أى مكان حتى لا تنهشه القطط والكلاب، وافق وأخذ جثمان الفرخ فى كيس بلاستيكى، واصطحب شقيقى برفقته، وعندما عادا سألت عما فعلاه، قال لى شقيقى بصوت هامس «بابا رماه فى الخرابة اللى قدامنا».
خرجت إلى البلكونة وأنا أبكى وأعتذر للصغير، وراودتنى فكرة مرعبة أنه لم يكن ميتا وإنما يغفو غفوة عميقة، وسوف يستيقظ وحيدا فى الخرابة، ولن يجدنى بجواره، أجهشت بالبكاء، وتعلمت أن ألم الفراق يعتصر المعدة، ويدس خناجر فى الصدر.
كانت المادة المقرر امتحانها فى اليوم التالى قد تبخرت من ذهنى، ولم يبق لى سوى صورة بوبى، ولم يكن لدى أى رغبة فى الاستيقاظ والذهاب إلى لجنة الامتحان الذى ظننته فى البداية لمادة الكيمياء، ولكن صححت لى شقيقتى أن الكتكوت البمبى مات ليلة امتحان اللغة العربية وليس الكيمياء.