«كاتيوشا».. ألعاب الهوى وألعاب السرد - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 7:08 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«كاتيوشا».. ألعاب الهوى وألعاب السرد

نشر فى : السبت 11 مارس 2023 - 8:50 م | آخر تحديث : السبت 11 مارس 2023 - 8:50 م

ربما يكون مفتاح هذه الرواية، محكمة البناء، شاعرية الأسلوب، هو أن تخدم ألعابُ السرد ألعابَ الهوى.

كاتبها وحيد الطويلة يقدِّم من خلالها تحية عميقة وحميمة لعواطف المرأة الصادقة المحبة، بينما لا يبدو الرجل على نفس الدرجة من الصدق والإخلاص. وفى المسافة الفاصلة بين الموقفين، تدور لعبة شيقة، لن تكشف مفاجآتها إلا فى آخر السطور.

الرواية الصادرة عن دار بتّانة، بعنوان «كاتيوشا»، تبدأ لعبتها انطلاقا من العنوان، فالكلمة مرتبطة باسم صاروخ فتاك، استخدمه الروس ضد الألمان، ولكن النص يكشف عن معنى آخر للكلمة: كاتيوشا اسم تدليل لكاترينا، الفتاة الروسية التى أخذوا حبيبها ليحارب الألمان، فغنت له أغنية شهيرة. كاتيوشا إذن امرأة عواطفها عابرة للأجيال بغنائها الرقيق، والنص كله، شكلا ومتنا وبداية ونهاية وإهداء، تحية لعاطفة المرأة العاشقة، التى تبدو لنا، من خلال الحكاية والأغنية، أكثر قوة وثباتا من الجبال الرواسى.

للكاتب نفسه رواية سابقة بعنوان «ألعاب الهوى»، وها هو العشق يلعب بمشيرة، بطلة رواية «كاتيوشا»، وقد اعترف لها زوجها الروائى الشهير رشيد، وهما فى طريقهما للمطار، لتصفية ارتباطهما فى الخليج، بأنه يحب امرأة أخرى، وأن هذه السيدة صديقة لها.

لا تمهيد ولا مقدمات، ولا اعتذار ولا أسف، هى عاشقة له، وهو أحبها أيضا، ولكنه الآن يتحدث عن حب امرأة أخرى، وعندما تثور، يتبادلان الضرب فى السيارة، فتنقلب بهما، يدخل غيبوبة فى المستشفى، وتدخل دوامة البحث عن غريمتها المجهولة، بين صديقاتها اللاتى تعرفهن.
هذا هو إطار اللعبة فقط، أما اللعبة نفسها فتدور على عدة مستويات:

الأول هو الجمع بين طريقة السارد العليم، وبين صوت مشيرة فى رحلة البحث عن حبيبة زوجها، خلال فترة غيبوبته، ثم تأخذ اللعبة درجة أكثر تعقيدا، عندما يتحول صوت مشيرة تدريجيا إلى نص مستقل يخصها وحدها، فكأنها رواية داخل رواية، وكأن «كاتيوشا» محورها الظاهرى خيانة رشيد، بينما جوهرها كتابة مشيرة، محورها الشكلى حياة روائى له عدة روايات، ولكن جوهرها استعادة مشيرة، وهى أيضا روائية لم تكتب سوى رواية واحدة، لصوتها ولكتابتها ولروايتها المؤجلة.

المستوى الثانى من اللعبة هو أن الحكاية توهمك بأنها عن الرجل، بل وتبدو كما لو كانت عن رجل واحد، بينما هى فعلا عن كل النساء: عن مشيرة فى كتابتها «عن» وحديثها «إلى» زوجها المغيب، عن نماذج نسائية تشك هى فيهن، وفى علاقتهن مع رشيد، والنماذج الثلاثة قدمت بنظرات عميقة لنفسية المرأة، ولصورتها المختلفة عن النظرة السائدة، مهما تباينت الأوصاف، من امرأة نحيلة، أو مدللة، أو محجبة، كلهن يتذكرن رشيد لأسبابٍ غير ما تصورنا، حتى صورة الصديقة الخائنة، تدهشنا بمنطقها، وبتفاصيل عواطفها، وتأخذها مشيرة إلى آفاق أكثر عمقا مما نتوقع.

يعنى ذلك أن النص قد جعل خيانة رجل بداية لاكتشاف خريطة ألوان من النساء، ويعنى ذلك أيضا أن عقل النساء وعاطفتهن، وقيمة العشق فى حياتهن، يتفوق على رشيد، وعاطفته المتقلبة والمراوغة، أما عقله فقد دخل غيبوبة طويلة، وسيكون هناك اختبار جديد لهذا «الرشيد» عند العودة، وهو اختبار له نتيجة، لا تقل إيلاما عن الخيانة.

فى مستوى ثالث، اكتسب رشيد شهرته من فهم المرأة، ومن التعبير عنها فى رواياته، بينما يبدو النص، فى صورته المركبة، بين سارد عليم، وصوت نسائى بمثابة رواية مستقلة، تعبيرا عن جهل رشيد بالمرأة، وربما جهل الرجال أيضا بها، قلبا وعاطفة وعقلا.

هو الذى كتب النساء، وعبّر عنهن كما يزعم، تكتبه مشيرة من وجهة نظرها، تفككه وتحلله، وكل امرأة افتراضية عرفته، تراه بالعمق، بينما لا يرى الرجال سوى جسد المرأة، يعرفونه شبرا شبرا، ويكتبونه أيضا، ولكن هل هم حقا يعرفون المرأة؟

النص يجيب بالنفى، لأنه يقدم صورة رجل فى غيبوبة، بينما يقدم نساء فى حالة يقظة، وفى حالة بقاء وحضور، من خلال صوت مشيرة، الذى سيظل مكتوبا وباقيا.

هذا النص هو أيضا صوت عشق كاتيوشا القديمة، وصوت المرأة، الذى لا يعرف منه الرجال سوى جسده الجميل.

فى مستوى رابع للعبة يتكرر انقلاب السيارة مرتين، وفى كل مرة يؤدى هذا الانقلاب المادى للسيارة، إلى انقلاب مسار السرد رأسا على عقب.

هنا حيلة فنية أخرى، تتسق مع انقلاب وتبدل مواقع رشيد ومشيرة، وتتسق مع المسافة بين حب رشيد، الذى يستوعب امرأة أخرى، وحب مشيرة الذى لا يتغير أبدا، حب رشيد الذى يستخدمه فى «روايات»، وحب مشيرة الذى يكتب «الرواية» بالألف واللام.

ومع عودة رشيد يعود الراوى العليم، ليشهد على طبيعة الرجل المتقلبة، فى مقابل عشق المرأة الراسخ.

فى المرتين تنقلب السيارة بسبب قلب المرأة العاشق: مرة بسبب غضبها على من أحبت فخانها، ومرة بسبب فرحتها بعودة من أحبت.

ليست حيلة مفتعلة أو قسرية، إنها جزء جوهرى خرج من قلب اللعبة، من فكرتها، من قلب كل كاترينا أو كاتيوشا أو مشيرة عاشقة، تريد أن تروض رجلا متقلبا، أو بعيدا، أو غائبا، يزعم أنه يعرف المرأة، بينما هو لا يعرف شيئا.

وحيد الطويلة أبرع من يصف جسد المرأة فى رواياته، إنه ينحت منها تماثيل للجمال المطلق، ولكنه يثبت فى «كاتيوشا» أنه بارع أيضا فى تفكيك مشاعر المرأة وعواطفها، وفى ترجمة أفكارها وهواجسها.

ما فوق الجلد، لامع وبراق، وداخل قلب المرأة براكين وزلازل، بحور ومحيطات، لآلئ وأصداف، أما المرأة العاشقة، فهى عالم مستقل، قارة كاملة تستحق الاكتشاف.

«كاتيوشا» بسطورها الأخيرة المثيرة، تفتح أيضا أبواب الأسئلة، بدلا من أن تغلقها، تنطلق من فعل الخيانة، إلى اكتشاف الذات والآخر. تؤكد تعقُّد النفوس والعواطف، ولكنها تقلب الفكرة الشائعة، فنرى رجالا متقلبين، ونعرف نساء عاشقات، يدفعن ثمن العشق، بكل أريحية.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات