خطاب أوباما وصعود وهبوط الإمبراطورية الأمريكية - هاني شكر الله - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 12:23 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خطاب أوباما وصعود وهبوط الإمبراطورية الأمريكية

نشر فى : الجمعة 12 يونيو 2009 - 7:05 م | آخر تحديث : السبت 13 يونيو 2009 - 11:01 ص

 إذا صح القول: إن القرن العشرين كان «قرنا أمريكيا»، كما وصفه عام 1941 الناشر والصحفى الأمريكى الشهير هنرى لوس فى مقال له بمجلة لايف، لوجب علينا أن نحدد البداية الحقيقية للقرن الماضى بـ25 أبريل 1898.

ففى ذلك اليوم أعلنت الولايات المتحدة الحرب على إسبانيا، انتقاما لإغراق البارجة الحربية الأمريكية «المين» قرب ميناء هافانا (ولم يكن للإسبان علاقة بإغراقها)، ومن أجل «تحرير» كوبا، وبعدها بورتو ريكو والفليبين وجوام، ووراثة الإمبراطورية الإسبانية البائدة.

وذلك من خلال عمل عسكرى متسع امتد من أمريكا الوسطى حتى شرق آسيا، يبدو مذهلا فى تشابه ملابساته وذرائعه ودوافعه مع عمل عسكرى ممتد آخر، أريد له أن يدشن قرنا أمريكيا جديدا، وذلك بحرب ضد أفغانستان فى 2001 ثم العراق فى 2003.

أبريل 1998 هو إذن البداية الحقيقية للقرن العشرين، أو إذا أردنا توخى الدقة، هو بداية ما يمكن أن نطلق عليه القرن العشرين الطويل، ونقتدى فى هذا بواحد من أهم علماء التاريخ فى القرن الماضى، وهو المؤرخ البريطانى اريك هوبسباوم ــ وهو بالمناسبة إسكندرانى المولد ــ وبتقليد أرساه فى مؤلفه المهم: «عصر التطرف: القرن العشرين القصير ــ 1914 ـ 1991».

فالظواهر والعمليات التاريخية الكبرى لا تسير وفقا لتقويم النتيجة، ميلادية كانت أو هجرية، ومن حقنا بالتالى أن نتدخل بعض الشىء لكى نضبط التقويم الزمنى بما يتلاءم مع صيرورة الظاهرة التاريخية.

القرن العشرون القصير عند هوبسباوم هو بدوره قرن أمريكى بامتياز، يبدأ بالحرب العالمية الأولى، وهى التى خرجت بالولايات المتحدة من عزلتها النسبية فى نصف الكرة الغربى لتظهر على المسرح العالمى كقوة كبرى، تتحول مع الحرب العالمية الثانية إلى قوى عظمى، وتتبوأ موقع القيادة فى الصراع الضارى بين الرأسمالية العالمية وبين محاولات لتجاوزها، أطلقتها الثورة البلشفية فى روسيا فى 1917.

وينتهى القرن العشرون القصير عند هوبسباوم بانهيار حائط برلين، وسقوط الاتحاد السوفييتى، لتقف أمريكا منفردة على قمة العالم، القوى العظمى الوحيدة فيه بغير منازع أو منافس.

عبارة «القرن العشرين الطويل» ليست من اختراعى على أى حال، فهى عنوان مؤلف ضخم لا يقل أهمية عن مؤلف هوبسباوم المشار إليه، وإن كان ربما يفوقه طموحا، للمؤرخ الاقتصادى الشهير بدوره، جيوفانى أريجى.

يقدم فيه رؤية تحليلية لـ700 سنة ــ هى عنده تاريخ الرأسمالية منذ نشأتها وحتى تأليف كتابه المنشور عام 1991 ــ تفيد بأن تاريخ الرأسمالية يمكن إدراكه من خلال منظور دورات كبرى، تستمر الواحدة منها لأكثر من قرن من الزمان، وذلك تحت عنوان: «القرن العشرين الطويل ــ المال والقوة وأصول أزمنتنا المعاصرة».

القرن العشرون الطويل المقترح هنا مختلف بطبيعة الحال، يبدأ بالحرب الأمريكية الإسبانية فى 1898، أى عند تلك اللحظة التاريخية التى مثلت عند المؤرخ والروائى الأمريكى الرائع، جور فيدال، لحظة موت الجمهورية وبداية عصر الإمبراطورية الأمريكية.

الصعود الإمبراطورى للولايات المتحدة هو جل ما قصده هنرى لوس بالقرن الأمريكى، ومواصلة المشروع الإمبراطورى الأمريكى لمائة عام أخرى كانت هى جل ما استهدفه بوش وتشينى وعصابتهما من المحافظين الجدد وغلاة الصهاينة واليمين المسيحى المتطرف فى مسعاهم لضمان أن يكون القرن الواحد والعشرون هو بدوره قرنا أمريكيا.

ليس هذا محض تكهن، أو استقراء للأحداث، فأكثر الناس اليوم يعرفون بـ«المشروع من أجل قرن أمريكى جديد»، الذى تأسس عام 1997 على أيدى مجموعة من المحافظين الجدد، فى مقدمتهم دونالد رامسفلد وبول وولفوفيتس، وحدد هدفه صراحة فى الحفاظ على «السلام الأمريكى»، مستخدما العبارة اللاتينية (Pax Americana)، وهى المستقاة من عبارة «السلام الرومانى»، التى استخدمتها الإمبراطورية الرومانية لوصف مجالها الإمبراطورى.

فعندهم: «لا توجد لحظة فى السياسة الدولية يمكن تجميدها فى الزمن، بما فى ذلك السلام الأمريكى، الذى لن يقوم وحده بالحفاظ على نفسه»، والوصفة «سهلة وهايلة»، على حد قول الراحل العظيم صلاح جاهين على لسان العمدة الصعيدى، فى رائعته (هو وسيد مكاوى)، «الليلة الكبيرة».

تتلخص هذه فى الحرب والسلاح: «يجب على أمريكا أن تحافظ على موقعها فى قيادة العالم، وأن تعمل على توسيعه، من خلال الحفاظ على التفوق الساحق للقوى العسكرية للولايات المتحدة».

وفى هذا السياق، يقترح المشروع المهمات التالية للقوات المسلحة الأمريكية: 1ـ أن تدافع عن الأراضى الأمريكية، 2ـ أن تخوض وتحقق انتصارا حاسما فى عدد من الحروب فى ساحات قتال كبرى وفى نفس الوقت، 3ـ أن تقوم بمهمات الشرطة فى عدد من الأقاليم المهمة بهدف صياغة البيئة الأمنية فيها، 4ـ أن تقوم باستغلال الثورة فى المجال العسكرى لإحداث تحول نوعى فى القوات المسلحة الأمريكية.

ومن ناحيتى أتصور أن الحرب على العراق، وليس على أفغانستان، هى التى مثلت ما يمكن أن نتصوره هنا باعتباره حفلة رأس السنة استقبالا للقرن الأمريكى الجديد المزمع، أو لحظة النهاية لما أسميته بالقرن العشرين الطويل. حرب أفغانستان لم تكن حرب ضرورة، كما وصفها أوباما فى خطابه فى القاهرة، بل كانت حرب ذرائع.

فيصعب فى الحقيقة إقناعنا، مهما بلغ سحر خطاب أوباما، بأن غزو بلد بأكمله، وهو الذى يهدد اليوم بأن يتسبب فى انهيار بلد آخر مجاور له، هو الطريق الأمثل لمكافحة منظمة إرهابية، تمتلك مجالات للتأثير الأيديولوجى ساحتها المسلمون فى أى مكان، وتنتشر فروعها فى أنحاء العالم، ولم تكن تحتاج كهوفا أو معسكرات فى أفغانستان.

أو فى غيرها من البلدان، لترتكب جريمتها الوحشية ضد أكثر من 3000 شخص فى المركز التجارى العالمى فى نيويورك، بل لمهارات تخطيط غربية المنشأ، ولخيال هوليودى، ولأدوات تشبه السكين، (knife-like instruments)، حسب تصور أجهزة الأمن الأمريكية للأسلحة التى استخدمها مختطفو الطائرات الأربعة فى 11 سبتمبر.

الحرب فى أفغانستان سمحت للمحافظين الجدد بأن يجربوا شن حروب متعددة ومتزامنة فى مسارح قتال كبرى، وهو ما أسفر عن خيبة ما بعدها خيبة، ولكنهم ومنذ البداية، وقبل 11 سبتمبر، كانوا يعضون على نواجذ غزو العراق، وقد أصبح معروفا للقاصى والدانى أن تلك كانت رغبتهم الملحة فور حدوث هجمات 11 سبتمبر، التى تحدثوا عنها بوصفها «فرصة سانحة»، و«لولا الملامة» لبدؤوا بالعراق.

ولعلى الآن استمحى عذر القارئ فى استطراد طويل قصدت منه أن يكون مقدمة لتعليق متأخر بعض الشىء على خطاب أوباما فى القاهرة، ومازال حدث الساعة، ومحور جدل حامى الوطيس. فعندى لا يمكن النظر إلى أوباما.

وإلى ما يقوله وما يفعله، بدون أن نضعه أمام هذه الخلفية الماثلة فى مشروع إمبراطورى، عسكرى، متوحش ومجنون، جسدته إدارة سلفه وعملت باستماتة على تنفيذه، ليشكل انتخاب أوباما فى حد ذاته هزيمة لذلك المشروع، وإيذانا بسقوطه، وإعلانا لفشله الذريع ــ وذلك بعد أن انكشف أمام العالم، وأمام أغلبية الشعب الأمريكى.

هذه الخلفية هى التى دعتنى لأن أجيب طوال الأيام السابقة لخطاب أوباما فى القاهرة عن سؤال متكرر من الصحفيين الأجانب حول توقعاتى من الخطاب، أجبت أن أهم ما أردته من أوباما قد تحقق بالفعل، وما أنتظره من خطابه هو المزيد من التأكيد عليه، وهو ما قد كان.

سؤال أوباما الكبير يتعدى خطابه فى القاهرة، أو فى أى مكان آخر، ويتعلق فى نهاية الأمر بما ستسفر عنه اللحظة التاريخية الحالية، وهى لحظة انتقالية على جميع المستويات، وما ستنطوى عليه من تحولات فى النظام العالمى بأسره، وفى موقع الولايات المتحدة منه.

لا نملك إجابة على هذا السؤال، غير أننا نعرف أن المشروع الإمبراطورى العسكرى قد سقط، وأن أهمية التفوق العسكرى ــ الميزة النسبية الكبرى للولايات المتحدة ــ فى هبوط، وأن الأزمة المالية ستحدث تحولات لا نعرف بعد مداها أو شكلها فى كل من الآليات الأساسية للنظام الرأسمالى العالمى ولموازين القوى الاقتصادية بين الدول والأقاليم فى إطار ذلك النظام.

ونعرف أيضا أننا إزاء سياسة أمريكية تسعى جهدها لتفادى كوارث النزوع الأحادى لإدارة بوش، وتسعى لسياسات عالمية متعددة الأطراف، ونعرف أن أوباما قد أدار ظهره بالفعل لسياسة وأيديولوجية صدام الحضارات التى عمدت (كما ذكرت فى مقالى السابق فى هذا المكان) إلى استهداف العرب والمسلمين «كعفريت خرابة» عالمنا المعاصر، وفى صياغتهم كذريعة أساسية لإبقاء العالم فى حالة حرب مستمرة، تعلى من قيمة التفوق العسكرى الأمريكى، وجاء خطاب القاهرة ليقدم مزيدا من التأكيد على نبذ أوباما وإدارته لذلك المنهج.

ونعرف أخيرا أن مرحلة الأحادية القطبية التى تلت سقوط الاتحاد السوفييتى هى إلى نهاية، وأن عالما متعدد الأقطاب فى سبيله إلى التشكل بصورة تكاد تكون حتمية، وأن قوى اقتصادية كبرى جديدة، فى مقدمتها الصين والهند، تطل على عالم الغد، وتشق لنفسها مكانا تحت شمسه.

أوباما لم يجئ إلى القاهرة لإعلان وفاة الإمبراطورية الأمريكية بكل تأكيد، ولكنى أعتقد أن الأمر لم يحسم بعد إذا ما كانت رئاسة أوباما (وقد تمتد لثمانى سنوات مقبلة) سيترتب عليها مجرد إعادة صياغة للإمبراطورية تقوم على استخدام أمثل «للقوة الناعمة» ــ وهذا فى حد ذاته تقدم مهم بالنسبة إلى ما سبقه ــ أم أنه سيكتب لأوباما أن يكون شاهدا على بداية النهاية للإمبراطورية الأمريكية؟. فالإمبراطوريات ليست كالنظم السياسية يمكن أن تهوى فى لحظة، ولكنها تسقط عبر سنوات، وبتدريج شديد.
وفى النهاية؛ أقر وأعترف: أعجبنى أوباما، وخطاب أوباما!.

هاني شكر الله عضو مجلس تحرير جريدة الشروق ، و المدير التنفيذي لمؤسسة هيكل للصحافة العربية ، وهو رئيس التحرير السابق لصحيفة الأهرام ويكلي ، كما أنه عضو مؤسس للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان ، وعضو مؤسس وعضو مجلس إدارة المركز العربي الأفريقي للأبحاث.
التعليقات