الدعوة الصامتة - ناجح إبراهيم - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 8:46 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الدعوة الصامتة

نشر فى : الجمعة 12 نوفمبر 2021 - 8:15 م | آخر تحديث : الجمعة 12 نوفمبر 2021 - 8:15 م

يتصور كثير من الدعاة أن الخطب والمؤتمرات والمحاضرات هى أقوى وسائل الدعوة الإسلامية، لما لها من صوت عالٍ وحضور كثيف من الناس وشهرة للداعية.
ولكن الحقيقة غير ذلك، فهذه الطريقة فى الدعوة أكثر شهرة وأوسع انتشارا، ولكن أثرها فى النفوس ضعيف، فأكثر الكلام يتبخر سريعا من قلب ونفس، بل وعقل المدعو.
أما الدعوة الصامتة فهى أقل شهرة وصيتا، ولكنها أعمق أثرا فى النفس البشرية، فهى تحفر آثارها يوما بعد يوم فى قلب ونفس المدعو لتغيير نفسه وقلبه إلى الأفضل والأحسن تغييرا جذريا، ويكفى أن معظم الصحابة الكبار كانوا من نتاج الدعوة الفردية، فكبار المهاجرين فى مكة كانوا من نتاج دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام وكبار الأنصار فى المدينة كانوا من نتاج دعوة صهيب رضى الله عنه.
وعندما كنت صغيرا فى المدرسة الابتدائية كنت أخرج من المدرسة فى الفسحة إلى محل المرحوم خالى، فقلت له أول مرة: إزيك يا خالى قال: الله يسلمك، قلت له: هات تعريفة يا خالى، «والتعريفة هى نصف القرش»، وتوازى الآن نصف جنيه تقريبا، فأعطانى التعريفة ثم انصرفت، وكنت أذهب له فى كل فسحة فأقول له فقط: إزيك يا خالى، فيعطينى التعريفة فى صمت، ثم أنصرف دون أن أتكلم أو حتى أشكره، لقد احترم كبريائى وعزة نفسى رغم طفولتى، فلم يجبرنى أن أطلب فى كل مرة التعريفة.
وكان يفعل ذلك مع أخى الأكبر أ. صلاح، فكان يعطيه قرشا كاملا بمجرد السلام عليه بعد الخروج من المدرسة.
وحينما كبرت أدركت أننى أحببت خالى من جراء هذا التصرف البسيط ومن دعوته الصامتة، وكنت كلما تذكرته خاصة وأنا فى المعتقل دعوت له، وقد آليت على نفسى أن أقلده فى هذا الأمر، فما دخلت الشارع الذى أسكن فيه فى بلدتى بالصعيد إلا وأعطيت الأطفال بعض الحلوى أو وزعت عليهم بعض المبالغ المالية البسيطة دون تفرقة بينهم وبين أقاربى من الأطفال.
ثم دارت الأيام دورتها وخرجت من المعتقل بعد سنوات طويلة قاربت 24 عاما، فوجدت رجالا كبارا يسلمون على ويقولون لى: نحن نحبك منذ صغرنا، لأنك كنت تعطينا الحلوى وقرشا لكل واحد وأنت فى كلية الطب، فقلت فى نفسى: سبحان الله، هذا الرجل الغنى الآن تذكر هذه الأشياء البسيطة التى كنت أفعلها معه منذ أكثر من عشرين عاما، وقلت لنفسى: هذه الدعوة الصامتة أعظم أثرا فى القلوب والنفوس من عشرات الدروس والخطب التى أعطيتها، وذلك زادنى عزما على استخدام هذه الوسيلة الجميلة من وسائل الدعوة الصامتة طوال حياتى.
الدعوة الصامتة هو أن تدعو بأخلاقك الكريمة دون أن تتحدث طويلا، الدعوة الصامتة أن تكون إسلاما يمشى على الأرض دون أن تستخدم لسانك، الدعوة الصامتة أن تكرم الضيف إكراما شديدا دون أن تحدثه طويلا وكثيرا عن الإسلام، أو أن تريد أن تضمه إلى جماعتك. الدعوة الصامتة هى التى أشارت إليها الصديقة العبقرية السيدة خديجة رضى الله عنها وهى تطمئن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حينما جاء خائفا من الوحى وهو يرتجف قائلا: «زملونى زملونى، دثرونى دثرونى». فقالت له بعبقريتها: إنك لتصل الرحم وتكسب المعدوم وتقرى الضيف وتعين على نوائب الدهر»، وكأن الذى يفعل ذلك لن يصيبه مكروه، إنها الدعوة الصامتة.
إنه يفعل كل هذه الخيرات فى صمت ودون ضجيج، وبغير من ولا أذى، ودون فخر أو استعلاء على الآخرين.
كان لى صديق أثير اسمه الشيخ حسين عيسى رحمه الله ظل عامين يعمل فى إحدى شركات الاتصالات فى دولة عربية وكان يعمل معه هندى من السيخ، لم يحدثه المرحوم حسين عامين كاملين عن الإسلام، وإنما أراه الإسلام كقدوة وأسوة ونموذج، أراه الإسلام يمشى على الأرض، ويتحرك فى الحياة فى صورته البشرية، فما كان من الهندى إلا أن أسلم مبررا إسلامه بذلك النموذج الفذ الذى رآه ممثلا للإسلام، إنها الدعوة الصامتة التى لا يحسنها أكثرنا، لأننا نهوى الميكرفون، ودعوة الميكروفون صاخبة مستعلية، ولكنها قليلة الأثر فى النفوس والقلوب.
لقد سألنى شاب منذ عدة سنوات قبل ثورة يناير كيف أدعو ونحن ممنوعون من الدعوة إلى الله؟ فقلت له: من يقول لك إنك ممنوع من الدعوة فهو كاذب، أنت ممنوع من الأنماط الصاخبة والعامة من الدعوة، أما الدعوة إلى الله نفسها فلا يستطيع أحد منعها.
فقال لى: ماذا أصنع؟
قلت له: اذهب كل يوم إلى طوابير الخبز واختر كذا سيدة مسنة وأحضر لهن الخبز كل يوم.
هذه يا بنى هى الدعوة الصامتة، وهى أكثر وأعظم أثرا من كل دعوة.
اعط كل طفل فى شارعك قطعة حلوى أو ربع جنيه كل يوم.
تبسم فى وجه كل من يلقاك فهى صدقة ودعوة لن تكلفك شيئا.
يمكنك أن تشترى الخضار كل يوم لعدة سيدات مسنات فى شارعك لا عائل لهن.
أو تشترى أنبوبة بوتاجاز لأرملة فقيرة لا سند لها ولا تجد من يشتريها لها.
الدعوة الصامتة لها مليون وسيلة ووسيلة وهى أقوى من كل الدعوات، وهى لا تنسى لأنها تحفر فى القلوب والنفوس، وهى لا تحتاج لعلم غزير أو فصاحة لسان ولا سيطرة على مسجد تتنازعه الجماعات المختلفة، ولكنها تحتاج فقط لنفس صافية تحب الناس وتعطف عليهم، وقلب رقيق يهفو إلى الخير ويشتاق إليه.

التعليقات