هما سؤالان مترابطان؛ هل يتحمل أصحاب السلطة والنفوذ بمفردهم المسئولية الأخلاقية والقانونية والسياسية عن المظالم المتراكمة وانتهاكات حقوق الإنسان والحريات واسعة النطاق؟ هل يرتب التورط فى إنزال المظالم والانتهاكات بالناس إن عبر آليات «تنفيذ الأوامر» الصادرة من أصحاب السلطة والنفوذ أو عبر أدوات تبريرها مسئولية المنفذين والمبررين، ويلزم بمحاسبتهم حال تمكن المجتمع المعنى من صناعة إطار للعدالة الانتقالية يرفع الظلم ويجبر الضرر عن الضحايا؟
بصياغات بديلة وبالنظر إلى الأوضاع الراهنة فى مصر، هل تقتصر المسئولية عن المظالم والانتهاكات غير المسبوقة على السلطة التنفيذية التي تزج بالبلاد إلى هاوية استبدادية صريحة، وعلى أعوانها المباشرين فى المؤسسات النظامية والأمنية والرسمية الذين يتولون «إصدار الأوامر» تارة لتعقب البعض وأخرى لسلب حرية البعض وثالثة لإهدار كرامة البعض تعذيبا ومعاملة غير إنسانية ورابعة لانتهاك حقهم المقدس فى الحياة قتلا خارج القانون؟
أم هل تمتد خطوط المسئولية الأخلاقية والقانونية والسياسية إلى موظفى العموم فى تلك المؤسسات الذين يضطلعون «بتنفيذ أوامر» إنزال المظالم والانتهاكات بالناس كروتين عمل يومى يتضمن التورط فى سلب الحرية والإلقاء وراء الأسوار والتعذيب والتصفية الجسدية؟
بل هل تمتد خطوط المسئولية أيضا إلى «أصحاب المساحات» فى الفضاء العام الذين يتخصصون فى «تبرير الأوامر» إن بإنكار اشتمالها على مظالم وانتهاكات، أو بالربط الزائف بين المظالم والانتهاكات وبين ضرورات وطنية حقيقية فى بعض الأحيان (حماية الأمن القومى والحرب على الإرهاب) ومختلقة فى أحيان أخرى (مواجهة مؤامرات هدم الدولة والحروب السيبرانية وحروب الجيل الرابع وغيرها من الأوهام الرائجة اليوم)، أو باعتبار المظالم والانتهاكات مقدمة «للإنقاذ والخلاص الوطنيين» ولحماية البلاد من المتربصين بها من أعداء الداخل والخارج؟
هل سيتعين على مجتمعنا ما أن ينفض عنه السلطة الحاكمة محاسبة عناصر المؤسسات النظامية والأمنية والرسمية الذين ينفذون اليوم أوامر سلب حرية «أطفال شوارع» واخرين،وأيضا مساءلة الإعلاميين والشخصيات العامة ومالكى وسائل الإعلام الذين يبررون أوامر الظلم اليوم كما برروها فى الماضى حين أوقعت الكثير من الضحايا ؟.
***
على اختلاف أوضاع الفاشية الأوروبية فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين التى مثلت السياق التاريخى والمجتمعى لأفكارها وكتاباتها عن أوضاع السلطوية المصرية فى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين، تدلنا الفيلسوفة حنا أرندت (١٩٠٦ــ١٩٧٥) على بعض المداخل الممكنة لتناول قضية المسئولية الأخلاقية والقانونية والسياسية عن المظالم وانتهاكات الحقوق والحريات. على خلفية جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية التى ارتكبها النازيون وغيرهم من الفاشيين الأوروبيين، سجلت أرندت أن المسئولية يتحملها بجانب أصحاب السلطة والنفوذ من «مصدرى أوامر الإبادة والجرائم» إن باسم الضرورة الوطنية أو الخلاص الوطنى كل فرد كانت له استطاعة الحكم المستقل على الأوضاع المحيطة به وكل فرد كانت له القدرة على رفض التورط فى «تنفيذ الأوامر» أو تبريرها.
دون مساواة فى جوهر ومضامين وتداعيات إقرار المسئولية الأخلاقية والإنسانية والسياسية عن جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية، اعتبرت أرندت أن الديكتاتور النازى وأعوانه فى المؤسسات الرسمية المختلفة من الآلة العسكرية والاستخباراتية والأمنية التى قتلت وقمعت إلى آلة البروباجندا وتزييف الوعى التى أدارها وزير الدعاية جوبلز يشتركون فى تحمل المسئولية مع كل فرد أدرك الطبيعة الإجرامية للنازيين ولم يبتعد عنهم، وامتلك القدرة على الامتناع عن التورط فى جرائمهم دون أن يلحقه أذى ولم يفعل.
موظف العموم الذى لم يزيف وعيه لكى يعتبر الإبادة والقتل والقمع ضرورات وطنية أو مقدمات للخلاص وكانت له القدرة على الامتناع عن تنفيذ الأوامر الإجرامية دون توقع تعقب أو أذى، عناصر النخب الاقتصادية والمالية والإدارية التى تعاونت مع النازيين بحثا عن العوائد المادية والمعنوية وتماهيا واعيا مع أيديولوجيتهم العنصرية، أفراد النخب الفكرية والثقافية والفنية والأكاديمية الذين امتلكوا استطاعة الحكم المستقل على الأوضاع المحيطة بهم ولم يرفضوا لا التورط المباشر فى الجرائم ولا التورط غير المباشر فيها عبر توظيف أدوات الإنكار والتبرير، هؤلاء جميعا رأتهم أرندت كمسئولين عن جرائم النازى أخلاقيا وقانونيا وسياسيا وكمشاركين مع الديكتاتور وأعوانه فى الدوائر العليا للحكم فى إنزال المظالم والانتهاكات بالناس.
وكأكاديمية بدأت حياتها المهنية فى ألمانيا قبل أن يدفعها عنف النازيين وتعقبهم لها ولأسرتها بسبب الانتماء الدينى لليهودية إلى الارتحال المؤقت ثم الهجرة الدائمة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، أفردت أرندت مساحة معتبرة فى كتاباتها لتناول ظاهرة المفكرين والمثقفين والأكاديميين الذين تماهوا مع النازية إن عن قناعة واعية بأسسها العنصرية أو عن رغبة واعية فى العوائد الممكنة للتعاون معها وأنتجوا لها مقولات الضرورة الوطنية والخلاص الوطنى لتبرير جرائمها، وصنفتهم كأصحاب دور كارثى فى التمكين للديكتاتور بإلغاء العقل واستباحة العلم ووضع الفكر مجردا من القيم الأخلاقية والإنسانية فى خدمة مجرمين (الفيلسوف مارتن هايدجر مثالا).
أما موظف العموم الذى تعرض لعمليات تزييف وعى حملته على اعتبار الإبادة والقتل والقمع مقدمات فعلية للخلاص الوطنى (يوزيف أيشمان نموذجا) ، وعناصر المؤسسات النظامية والأمنية والرسمية الذين لم يأمنوا الأذى الشخصى حال الامتناع عن تنفيذ الأوامر الإجرامية للنازيين، والمواطن الذى نجحت البروباجندا الرسمية فى إقناعه بحتمية الاصطفاف خلف البطل المنقذ والقائد المخلص دون تفكير عقلانى أو نقاش موضوعى، هؤلاء لم تدرجهم أرندت فى خانات المسئولية عن جرائم ومظالم وانتهاكات النازيين إن لانتفاء استطاعتهم الحكم المستقل على الأوضاع المحيطة بهم أو لغياب قدرتهم على رفض الانصياع لأوامر النازى نظرا للعواقب الشخصية الخطيرة للرفض.
***
دون إنكار لاختلاف سياق الفاشية الأوروبية فى القرن الماضى عن السياق الحالى للسلطوية المصرية، يدلل تناول حنا أرندت لقضية المسئولية عن المظالم والانتهاكات على الخطأ الجوهرى لقصر خطوط المسئولية هذه على الحكام وأصحاب السلطة والنفوذ دون أعوانهم فى المؤسسات الرسمية وفى أوساط النخب الاقتصادية والمالية والإدارية وبين المفكرين والمثقفين والأكاديميين والإعلاميين ممن يشاركون وعيا وطوعا فى تنفيذ «الأوامر» وفى الترويج المجتمعى لها عبر أدوات الإنكار والتبرير وتزييف الوعى.
يدلل تناول أرندت أيضا على الخطأ الجوهرى الآخر الذى يمثله مد خطوط المسئولية الأخلاقية والقانونية والسياسية عن المظالم والانتهاكات إلى موظفى العموم والعاملين فى المؤسسات الرسمية الذين يتورطون فى تنفيذ «الأوامر» كروتين يومى يرتب الامتناع عنه الكثير من العواقب الشخصية الوخيمة أو الذين يساهمون فى إنكار وتبرير المظالم والانتهاكات بعد أن طال تعرضهم لعمليات تزييف الوعى وحملوا على الاقتناع الزائف بكون سلب حرية «أطفال شوارع» وغيرهم وراء الأسوار ليس إلا استجابة لضرورة وطنية أو مقدمة لخلاص وطنى موعود. ليست عناصر الأجهزة الأمنية التى نفذت الاقتحام الأمنى لنقابة الصحفيين وجاءت بمن يسمون المواطنين الشرفاء للاعتداء اللفظى على الصحفيين هى المسئولة عن المظالم والانتهاكات، بل من أصدر «الأمر» ومن قرر تنفيذه على هذا النحو ومن خرج مبررا له دون حدود هم المسئولون. كذلك لا تقع المسئولية الأخلاقية والقانونية والسياسية عن ما يحدث وراء أسوار أماكن الاحتجاز فى مصر على من لا يملكون غير الانصياع «للأوامر» من موظفى العموم والعاملين وعناصر المؤسسات الأمنية فى السجون والأقسام الشرطية وغيرها، بل على مصدرى الأوامر فى الدوائر العليا للحكم ومنكرى جرائم التعذيب والاختفاء القسرى فى أوساط النخب النافذة ومبررى المعاملة غير الآدمية للمسلوبة حريتهم بين السادة أصحاب المساحات فى الفضاء العام.