ماذا حل بقرانا المصرية؟! - محمد يوسف - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 5:53 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ماذا حل بقرانا المصرية؟!

نشر فى : الجمعة 13 سبتمبر 2019 - 10:20 م | آخر تحديث : الجمعة 13 سبتمبر 2019 - 10:20 م

تأخذ التغيرات العميقة التى شهدتها القرية المصرية بلُب الباحث فى العلوم الاجتماعية، وتجعله يحار فى تفسيرها وفى التنبؤ بمستقبلها، ناهيك عن تمحيص علاقتها بأحوال التنمية التى ينشدها الاقتصاد المصرى. وهذه التغيرات ليست عميقة فحسب، بل متعددة الأبعاد كذلك؛ فهى غير محصورة فى الظواهر الاجتماعية، وغير مقصورة على الجوانب الاقتصادية؛ إنما هى تغييرات متنوعة ومتصلة ومتداخلة ومتفاعلة. وقد تظهر كتغيرات متناغمة مع بعضها أحيانا، أو تُرى متناقضة ومتضاربة أحيانا أخرى.
ومع عمق التغيرات التى شهدتها قرى مصر، ومع تعدد أبعادها، فإن محاولة جادة لدراسة هذه التغيرات تحتاج لجهد بحثى شاق، لا يمكن لباحث أن يتحمله منفردا. ولما لا، وما كان البحث فى الظواهر الاجتماعية بالأمر اليسير، وما كانت التغيرات التى شهدتها القرى المصرية بالقدر البسيط. ولكن حسبنا أننا سنجتهد فى تحديد الخطوط العريضة لهذه التغيرات، ونحاول وضعها فى إطار اجتماعى يكشف مسبباتها، ويتوقع آثارها على مستقبل التنمية فى مصر.

***

إذا حُق لنا اعتبار القرية المصرية مرآة مُصغرة تعكس أوضاع وأحوال مصر، فإننا إذن نملك ما يربو على أربعة آلاف جزء من هذه المرآة؛ وهو العدد المقدر للقرى المتناثرة فى أنحاء مصر الأربعة. صحيح أن هذه الآلاف المؤلفة من المرايا ليست متجانسة فى تفاصيلها ومكوناتها، أو متناظرة فى أبعادها ودقتها فى الانعكاس؛ إذ أنها تمثل واقع قرى متباينة فى مراحل التطور الحضرى والاجتماعى والاقتصادى. لكن ذلك لن يحول بيننا وبين استخراج قدر من التشابه فيما بينها، ولن يمنعنا كذلك من إصدار بعض التعميمات والملاحظات عن التغيرات التى شهدتها القرى المصرية فى العقود التالية لتأسيس الجمهورية فى مصر.
إن أولى ملاحظاتنا حول الواقع الذى تعيشه قرانا المصرية، هى أنها لم تعد مركز توليد الدخول لقاطنيها. إذ بتحول الأنشطة المولدة لدخول القرويين من القطاع الزراعى للقطاعات المحلية غير الزراعية (الصناعية والتجارية والخدمية)، تحول جل القرويين عن الزراعة، وخرجوا من القرية للمدينة بحثا عن المصادر الجديدة للدخل. وكان لهذا التحول أسبابه المنطقية، وكانت له تكاليفه الباهظة على التنمية الإقليمية فى مصر. ذلك أن الأراضى المنزرعة قد تآكلت انتاجيتها، ثم ضاقت بعمالتها، فانخفضت، فى غمار التضخم، قدرة نشاط الزراعة على توليد الدخل الكافى لحياة كريمة للمزارع القروى. وإذا كانت العوامل الطاردة من القرية قد لعبت دورا محوريا فى تحول مراكز توليد الدخل خارجها، فإن العوامل الجاذبة من المدن المجاورة لها كرست من هذا التحول. فتفوق دخول الوظائف فى المدينة، والطبيعة المنتظمة لهذه الدخول، وتوافر مظاهر الضمان الاجتماعى فى هذه الوظائف، جعل منها جاذبا لعمالة القرية المصرية. وفى أحيان كثيرة، تسبب غياب التنظيم عن النشاط الزراعى القروى، وانتشار «الملكية القزمية» للأراضى الزراعية بها، أن سنحت للمزارع الفرصة بأن يجمع بين عمله فى وظائف المدينة وبين الأعمال الفلاحية البسيطة.
ولم يقف الأمر عند سحب المدن المجاورة للقرى لمراكز توليد دخل سكان هذه القرى. فلقد انتقل جزء من هذه المراكز لأبعد من ذلك بكثير، حتى خرجت خارج حدود الدولة المصرية ذاتها. فبعدما سيطرت «الهجرة للنفط» على الأحلام الاقتصادية لعمال القرى، وبعدما انتشرت ظاهرة «الهجرة لأوروبا» فى عدد متنامى من قرى الوجهين القبلى والبحرى، أصبحنا أمام نموذج جديد للقرية المصرية، ويحمل ملامح اقتصادية ومالية واجتماعية جديدة، ويختلف بالكلية عن القرية ما قبل هذه الهجرات الخارجية.
على أن قضية التحول فى مراكز الدخول المولدة فى القرية المصرية، كانت لها عظيم الأثر على طبيعة الاستهلاك فيها. فالانتقال من الموسمية إلى الشهرية، والارتقاء من أسفل سلم الدخل لأوسطه، والتنوع من دخل العمل إلى دخل الملكية، كلها عوامل ساهمت فى إخراج صورة قاتمة لتيارات الاستهلاك داخل القرية المصرية. فتيارات الدخل المتدفقة للقرية من مراكزه الجديدة قد مولت «هرم الاستهلاك» من قاعه لقمته؛ بداية من إشباع الحاجات الأساسية (المأكل والملبس والمسكن)، ومرورا بإشباع الحاجات الاجتماعية (التعليم والصحة)، ووصولا حتى لمظاهر الاستهلاك الترفى الدخيل على حياة القرى فى مصر. وفى ظل سيطرة هذا النمط الاستهلاكى على الدخل القروى، ستكون فرص الأنشطة الإنتاجية فى الحصول على حصة من هذا الدخل قريبة من الصفر. فالادخار لا يجد له مكانا فى غالبية قرانا المصرية.
وإذا استثنينا نسبة محدودة من القرويين من أصحاب الدخول المرتفعة المولدة من المراكز الجديدة للدخل، سنجد أن غالبية دخول القرية يُقتطَع منها، بشق الأنفس، جزء يوجه للادخار التعاونى (يسمى فى اللغة الدارجة بالجمعيات). وفوق أن هذا النوع من المدخرات لا يدخل ضمن دائرة البنوك، ولا يتجه صوب تمويل الاستثمارات المنتجة، فإن المستهدف من هذه المدخرات هو، بالأساس، زيادة قدرة القرويين على استهلاك واكتناز السلع المعمرة (لاحظ أنها سلع عالية المكون الأجنبي) فى مناسبات اجتماعية متنوعة، كمناسبة بناء الأسر الجديدة. ولذلك نستحسن تسميتها بالمدخرات الاستهلاكية.
وإذا عرجنا على ثانى ملاحظاتنا عن الصورة الحالية لقرى مصر، فإن اللون الأحمر قد أمسى بديلا كئيبا عن لونها الأخضر، ذلك اللون الذى كان قد طبع صورتها الزاهية فى الماضى. فزحف المبانى الحمراء على أراضينا الخصبة لا يضاهيه فى الكآبة غير تردى منظومة البناء وتخصيص الأراضى فى عموم مصر. فما الأولى إلا انعكاس شبه كامل للثانية. وحتى إذا استطعنا تجاوز قضية الجور على الأراضى الخصبة فى القرى المصريةــ رغم يقيننا الكامل بأنه أمر لا يستسيغه عقلــ فإن زحف المبانى فى القرى المصرية يتم بعشوائية شديدة، ولا يخضع لتنظيمات صارمة. وتكون محصلة هذه العشوائية هى مضاعفة كلفة هذا الزحف الجائر؛ إذ تتعقد به مشاكل البنية الأساسية، وتزداد به المشكلات الاجتماعية والأمنية، وتقل به جودة الحياة فى القرية على إطلاقها.
إننا نستطيع بكل ثقة الآن أن ندعى وجود علاقة دائرية قوية بين ما لاحظناه من انتقال لمراكز توليد الدخل خارج القرى المصرية، وعما لاحظناه من عشوائية البناء فيها. فغياب التنظيم عن الأنشطة الاقتصادية القروية، وانتقال مراكز الدخل للمدن القريبة من القرية، وقوة الروابط الاجتماعية، مع استمرار ظاهرة «العائلة الممتدة»، كل ذلك لم ينتج عنه خلخلة حادة فى حجم القرية، ولم يتمخض عنه هجرة كثيفة باتجاه المدن القريبة. ولعوامل ثقافية، استمرت القرى فى التضخم السكانى، وهو ما خلق الحاجة للتوسع العمرانى داخلها. ثم لعبت البنية الأساسية المتردية، وضعف أنظمة الحكم المحلى، دورها الحاسم فى بروز ملاحظتنا الثانية عن عشوائية البناء فى غالبية هذه القرى.

***

من الطبيعى أن يعج مجتمع القرية بالظواهر الاجتماعية. ومن المنطقى، كما أسلفنا، أن تكون الصورة الحديثة لهذه الظواهر هى نتاج عملية مستمرة من التفاعل والتطور. وبصدد بحثنا فى التغيرات العميقة التى شهدتها القرى المصرية، يمكن أن نخرج بملاحظتين نضيفهما لسلسلة ملاحظاتنا حول هذه التغيرات. فنحن نرى أن سيطرة نموذج حضرى على القرية المصرية هو من نوعية التغيرات العميقة التى نحاول رصدها. والنموذج الحضرى الذى نقصده هنا يعنى تطور المستوى التعليمى لقاطنى القرى المصرية. فلم يعد التعليم حكرا على أبناء المدينة كما كان فى مطلع القرن الماضى؛ بل إننا نلحظ أن وعى أبناء القرية بأهمية التعليم يوضحه نبوغ العديد من أبنائها تعليميا. وانتشار التعليم بين أبناء القرى ليس بالتغير العارض أو البسيط مثلما يبدوا لأول وهلة. بل إننا نعتقد أنه أعمق من حيث الأثر مقارنة بالتغيرات الاقتصادية العميقة التى ذكرنا طرفا منها سابقا. فعاجلا أو آجلا، سيزيد التعليم من الوعى الاجتماعى والاقتصادى لأبناء القرى، وسيساهم فى حراك طبقى قوى بينهم فى مقابل أبناء المدينة، وسيوضح لهم حدود الفرق بين أوضاع المدينة وأوضاع القرية، وسيمكن بعضهم من القفز من سفينة القرية، ويبقى آخرين قابعين داخلها. والحالة الوحيدة التى سيمكن معها توجيه هذا الحراك الوجهة التنموية السليمة، مرهونة بنجاح السياسات الاقتصادية (وخصوصا السياسة المالية) فى استيعابه وترشيده.
والملاحظة الأخرى التى نخرج بها من التمعن فى أحوال القرى المصرية، وتمثل تناقض اجتماعى صارخ تعانى من ويلاته القرى المصرية، نراه فى التزامن بين نظام «العائلة الممتدة» (وفى بعض الأحيان النظام القبلى الأكثر صرامة فى تفسير العلاقات الاجتماعية)، وبين انتشار مظاهر العولمة فى بيوتها وشوارعها وأزقتها. فالتعايش بين نقيضين نعتقد أنه من أعمق التغيرات التى نلاحظها حاليا فى قرى مصر. ذلك أن نظام العائلة الممتدة يعنى سيطرة العديد من التقاليد الاجتماعية المتوارثة والظاهرة على سلوكيات أبناء القرية؛ وبالتالى، فهو نقيض لمنظومة العولمة التى تضعف من دور العائلة فى توجيه سلوكيات الأفراد والأسر. وإذا كانت المدينة أقدر على استيعاب منظومة العولمة بمقوماتها المختلفة، ولا توجد بها عوامل قادرة على الصمود أمام طوفان العولمة، فإن القرية تنوء بهذا الحمل، وتضيق به ذرعا. ويكفينا فى هذا الخصوص القول بأن الأمثلة والشواهد أكثر من أن تحصى عن الآثار الاجتماعية السلبية لهذا التناقض فى قرى مصر. والمتابع لمشكلات الاجتماعية الراهنة يعلم صدق هذا القول.

***

لقد كان التحدى الأساسى للفقرات السابقة هو محاولة رصد وتحليل التغيرات العميقة التى حلت بقرى مصر. ومع أننا لا ندعى قطْعنا لشوط كبير فى هذا الرصد، فإن التحليل لا يجوز له أن ينتهى دون التفكر فى أثر هذه التغيرات على مستقبل مصر الاقتصادى. وبوضوح شديد، نقول أنه طالما عرفنا التنمية بأنها عملية تغيير شاملة للظواهر الاقتصادية والاجتماعية المعيقة للتقدم الاقتصادى والاجتماعى، فإن التغيرات العميقة التى حلت بالقرى المصرية يمكن أن تكون سلاح ذو حدين. والنموذج التنموى المطبق، والسياسات الاقتصادية المنبثقة عنه هى التى توضح الحد البارز من هذا السلاح. وبالعودة لأرض الواقع، وبطبيعة الأمور، فإن السياسات المطبقة حاليا فى مصر لها إنجازاتها واخفاقاتها. ومن أراد أن يبحث فى واحدة من أهم أسباب الإخفاق، عليه التمعن فى أحوال القرى. فكما يقول المثل الصينى: حين تسوء الأمور، عليك أولا النظر فى المرآة. والمرآة فى مقامنا هذا هى القرية المصرية!

محمد يوسف باحث رئيسي في مركز تريندز للبحوث والاستشارات بدولة الإمارات
التعليقات