زبيدة بنت المصب الحائرة - نبيل الهادي - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 10:07 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

زبيدة بنت المصب الحائرة

نشر فى : الثلاثاء 13 سبتمبر 2022 - 7:20 م | آخر تحديث : الثلاثاء 13 سبتمبر 2022 - 7:20 م
فى إجازة الصيف المدرسية تقف زبيدة فى أحد محلات البقالة المتواضعة فى برج رشيد لتبيع أكياس البطاطس المقلية أو البسكوت المغلف أو المياه المعبأة فى زجاجات بلاستيكية أو غيرها مما هو موضوع على الرفوف المتواضعة فى محل أبيها المسن. وتتبادل مع أختها الأصغر العمل فى المحل لأنها تذهب للعمل مع أبيها عندما يحتاجها فى ورشته التى يصنع فيها الأقفاص من جريد النخل المجفف. وتمضى معظم أيام الصيف وهى لا تكاد تملك وقتا للعب واللهو مع صديقاتها.
وقد أحست بنت الرابعة عشرة بصعوبة الحياة التى يعيشونها مع بداية دخولها للمدرسة ونما وعيها سنة بعد سنة بالمشقة التى يتكبدها أبواها لكى يوفرا لها ولإخوتها حاجاتهم من الطعام والملابس، ويمتلئ رأسها الصغير بذكريات مؤلمة للأيام التى يحل فيها بأحدهم مرض طارئ يتطلب أجر طبيب وشراء أدوية قد لا تكون فى متناولهم. وأدركت قريبا أيضا كيف يكافح أخاها الأكبر فى إحدى بلاد الخليج لكى يتمكن من ادخار بعض المال كى يستطيع الزواج من جارتهم التى قام بخطبتها منذ سنة، وكيف أنه يرسل لهم شهريا مبلغا من المال يكاد هو ما يبقيهم فى حالة مستورة. وكلما عاد أخاها فى زيارة قصيرة يحكى عن أحوال أصدقائه وزملائه الذين سافروا من القرية ومن قرى أخرى مجاورة كلهم يسعون لادخار قدر من المال لكى يساعدوا أهاليهم وأيضا ليتمكنوا من بناء بيت صغير يصلح بالكاد لعائلة صغيرة. ولا تنسى أبدا أنها لمحت الدموع فى عينيه عندما كان يحكى عن زميله الذى كان من ضحايا المركب المشئوم التى انطلقت من برج رشيد فى خريف العام السادس عشر وكيف هزته تلك الحادثة وزملاؤه ودفعته دفعا للبحث عن مكان يستطيع أن يكسب فيه عيشه. ولا يزال أخاها الأصغر فى منتصف دراسته فى جامعة الاسكندرية وعندما يعود مع انتصاف الصيف يبدأ فى العمل كصياد أو سائق توك توك كى يتمكن من ادخار بعض المال ليستعين به فى الجامعة.
• • •
تسمع زبيدة الكثير من الأحاديث عن تدهور الحياة فى قريتها فى العقود الأخيرة قبل أن تولد ولكن وتيرة التدهور كما تراها آخذة فى الازدياد فى السنين الأخيرة. وتتمنى زبيدة لو تمتلك تليفونا محمولا كما تفعل بعض صديقاتها فى المدرسة. وفى آخر السنة الدراسية الماضية تتذكر زبيدة كيف حدثتهن مدرستهن عن استضافة مصر لمؤتمر كبير للغاية يجمع كل دول العالم فى نوفمبر المقبل فى مدينة شرم الشيخ فى جنوب سيناء. وكيف أن مصر تتطلع للاستفادة من هذا المؤتمر فى دعم السياحة وتقديم نفسها للعالم بصفتها من الدول المهتمة والرائدة بالبيئة. فى وسط حديثها توقفت المدرسة لكى تخبرهن أن المكان الذى يعيشن فيه هو من أهم الأماكن فى العالم للموضوع الذى يناقشه المؤتمر. تتذكر تعجبها هى وزميلاتها وسؤالهن كيف ذلك وقريتهن مكانا بعيدا عن كل الناس ويبدو من قلة زائريه وكثرة مشاكله أنه مكان لم يسمع به أحد؟
سألتهن المعلمة أمل وقتها هل تعرفن ما هو التغير المناخى؟ وهل سمعتن عنه من قبل؟ وبعد صمت قصير ارتفع صوت سهر وهى التلميذة الأكثر قراءة واجتهادا فى فصلهن لتقول إنها قرأت منشورا على الفيس بوك يشرح كيف أن المناخ يتغير بفعل تدخل البشر فى الطبيعة وأن هذا التغير سيكون له نتائج سلبية على الجميع وأننا يجب أن نقوم بعمل العديد من الأشياء قبل فوات الأوان لكى ننقذ الأرض التى نعيش عليها والتى بدونها لن نستطيع أن ننقذ أنفسنا. ورفعت نجاح يدها لتقول ولكننا لا نقوم بشىء ضار للأرض فى برج رشيد لأنه فى كل الأحوال ليس هناك صناعة ولا أعمال أخرى ضارة وعليه فغالبا لن يصيبنا ضرر فلماذا إذن نقلق؟. ردت المدرسة على نجاح بقولها إنها كانت تتمنى لو كان الوضع بهذه الصورة ولكن للأسف بالرغم من أن سكان برج رشيد وربما البحيرة وأيضا باقى محافظات مصر ليسوا هم الأكثر مسئولية عما يسبب تغير المناخ إلا أننا كما تقول الدراسات سنكون الأكثر تأثرا للأسف. ثم أردفت أنها قرأت فى إحدى الصحف اليومية أنه فى حالة ارتفاع منسوب سطح البحر فإن مدخل النهر الحالى للبحر سيتراجع حتى يبلغ برج مغيزل القرية المقابلة لقريتهم.
لطالما تمنت زبيدة أن تكون مثل مدرستها أمل التى أرشدتها وعلمتها الكثير عن الحياة وساندتها لكى تتمكن من تحصيل دروسها بجدية، ومنذ حصلت على الشهادة الإعدادية فى يونيو الماضى فهى تحلم بالمدرسة الثانوية الواقعة فى مدينة رشيد والتى ستضطر لركوب القطار يوميا للالتحاق بها. وبالرغم من أنها تعرف أنها خطوتها الأولى نحو الجامعة لكن القلق يزورها كل حين لأنها تعرف مدى صعوبة موافقة عائلتها على استمرار دراستها فى الجامعة.
• • •
كلما فكرت زبيدة أكثر فيما سمعته عن مشكلة التغير المناخى فى رشيد وتأثيرها الكبير على مستقبلها هى وأسرتها التى تتمنى تكوينها شعرت بقلق كبير وخوف من هذا المستقبل. وحينما تذهب زبيدة للتمشية على شاطئ النيل القريب فى وقت الصباح الباكر تزدحم الأفكار فى رأسها الصغير فهل ستستطيع أن تكمل دراستها الثانوية بتفوق لتلتحق بعدها بكلية التربية جامعة الإسكندرية لكى تتخرج منها وتعمل مدرسة مثل مثلها الأعلى الأستاذة أمل أم أن أهلها لن يوافقوا؟ هل يمكن أن يساندها إخوتها أم لن يستطيعوا وهل سيتمكن خالها أن يقنع أباها كما وعدها أم لن يقدر؟ وأحيانا عندما تكثر من التأمل فى النهر وتشعر بنسمات الهواء الباردة تتساءل هل يا ترى سيتركها أهلها لتحقق أحلامها وتعود لأرضها لتساعد صغار قريتها. وتتكلم مع النهر أحيانا وتسأله هل ستعود فى يوم قريب كما كنت لزمن طويل بين العذوبة والملوحة أم أنك أيضا مثلى ما تتمناه لنفسك ليس بيدك فقط؟

أستاذ العمارة بجامعة القاهرة

التعليقات