عن الدين والسياسة - جلال أمين - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 6:59 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن الدين والسياسة

نشر فى : الثلاثاء 14 أكتوبر 2014 - 7:55 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 14 أكتوبر 2014 - 7:55 ص

كثيرون (وأنا منهم) يعتقدون أنه من الأفضل فصل الدين عن السياسة، إذ إن الدمج بينهما يفسد الدين والسياسة معا، وهؤلاء لديهم أدلة كثيرة وقوية، عقلية وتاريخية يؤيدون بها موقفهم.

أما الأدلة العقلية فتستند إلى الفوارق الجوهرية بين طبيعة كل منهما. الدين مصدره إلهى، ونصوصه مقدسة وثابتة على مر العصور، بينما السياسة لها مصادر كثيرة دنيوية ومن صنع البشر، يعدِّل بعضها بعضا على مر العصور، إذ إن أمور السياسة تتغير من زمن لآخر، وتختلف من مجتمع لآخر، ومن ثم فمن الطبيعى أن تختلف فيها الآراء مع اختلاف العصور والبلاد.

وحتى إذا تعرضت بعض النصوص الدينية لشئون السياسة (وهى قليلة بالنسبة لتلك التى تتناول علاقة المرء بربه) يضطر الناس إلى إعادة تفسيرها مع تغير الظروف والأحوال، ويفهمها أعضاء مجتمع معين على نحو كثيرا ما يختلف عن النحو الذى يفهمها به مجتمع آخر، واصرار البعض على اخضاع السياسة للدين، بناء على تناول بعض النصوص المقدسة لأمور سياسية، لابد أن ينتهى إلى اختلاف الفقهاء فى فهم هذه النصوص وأحكامها بسبب ما يواجههم من ظروف متغيرة.

ولكن هذا الاختلاف يقترن عادة، وللأسف، بإصرار البعض على أن هذه النصوص المقدسة التى تتناول أمورا سياسية لها معنى ثابت واحد على مر العصور، وهو المعنى الذى يفهمونه هم به.

وهنا تبدأ المشكلة، إذ إن هذا الموقف يفتح الباب لإخضاع ما هو إلهى لما هو بشرى، دون الاعتراف بالدور البشرى فى هذا العمل، وهذا لابد أن يؤدى إلى كارثة. فنجاح شخص أو مجموعة من الناس فى فرض مفهومهم هم للنص المقدس يتوقف على أشياء كثيرة نادرا ما يكون من بينها درجة ما يتمتعون به من حكمة، أو حرص على الصالح العام، أو حتى على درجة تفقههم فى علوم الدين، وإنما يتوقف نجاحهم فى الغالب إما على قوة الشخصية، أو الفصاحة اللغوية، أو قدرتهم على التلاعب بمشاعر الجمهور، بل وأحيانا حتى على قوة السلاح. ومن الواضح أنه لا قوة الشخصية ولا الفصاحة ولا القدرة على التأثير فى الجماهير (ناهيك عن قوة السلاح) تقترن دائما بصواب الرأى. ومن هنا تأتى الكوارث، يتسلم البعض الحكم، مؤيدين بجماهير غفيرة، خدعوا أو اضطروا إلى الاستسلام، بسبب ما يتمتع به الزعيم من صفات شخصية أو ما يملكه من سلاح، فينتهى الأمر بفساد السياسة والدين معا.

لا أظن ان القارئ فى حاجة إلى تذكيره بالعديد من الأمثلة التاريخية للكوارث التى أدى إليها اقحام الدين فى السياسة، على هذا النحو، فى العصور القديمة والوسيطة والحديثة على السواء، كلما اقتنع الناس بأن الفرعون أو الملك أو القيصر هو إله فى الوقت نفسه، وأن كلامه مقدس لمجرد تفوهه به، أو بأن الملك هو ظل الله على الأرض، وأن التمرد عليه ينطوى على خروج عن طاعة الله، أو كلما قبل الناس أن يقوم رجال الدين بدور الإله فى منح العفو أو منعه، وبيع صكوك الغفران، فاحتكروا القوة والثراء باسم الدين، أو عندما قام حكام محدثون بخداع الناس عن طريق إيهامهم بتقواهم وورعهم وهم يمارسون الفساد، ويرتكبون مختلف الموبقات فى الخفاء.. إلخ كل هذا كان ينطوى على مزج شرير بين الدين والسياسة، فأفسد السياسة والدين معا.

على الرغم من كل ذلك، هناك من المتدينين من تزعجهم جدا هذه الدعوة إلى الفصل بين الدين والسياسة. وأنا أرد هذا الانزعاج إلى أحد أمرين. فهو قد يرجع إما إلى رغبة أنانية فى استخدام الدين لتحقيق مآرب شخصية، تتعلق بكسب الزعامة أو السلطة أو المال، فهؤلاء يهمهم اقناع الناس بأنه من الواجب (الذى تفرضه عليهم عقيدتهم) إخضاع السياسة للدين، ثم يشرعون فى فرض مفهومهم هم للنصوص على النحو الذى يتيح لهم تحقيق مآربهم الشخصية. هذا النوع من الناس لا أمل فى الحقيقة فى اقناعه بمزايا فصل الدين عن السياسة، إذ إن طموحاتهم الشخصية ومطامعهم تقف حائلا ضد هذا الاقتناع.

ولكن هناك نوعا آخر من المتدينين، وهم الغالبية، اقل أنانية وأكثر نبلا، يجدون من الصعب أن يقبلوا أن النص الدينى الواحد يمكن أن يكون له أكثر من فهم أو تفسير واحد، وقد تتعارض بعض هذه التفسيرات مع غيرها ناتج فى رأيى عن موقف نفسى بحت هو الشعور بأن قدسية النص لابد أن تتعارض مع تعدد التفسيرات، إذ يجدون من الصعب التمييز بين الطبيعة الإلهية للنص والطبيعة البشرية للتفسير.

أظن أن هذا الموقف النفسى العنيد، والمتأصل فى نفوس الكثير من المتدينين هو الذى جعل من الصعب على الداعية إلى «الاجتهاد» أن يكسبوا المعركة ضد الداعية إلى الالتزام الحرفى بالنصوص، إذ ان عملية «الاجتهاد» تنطوى بالضرورة على التخلى عن هذه الفكرة المتسلطة على أفكار كثيرين، نعم ان قبول فكرة الاجتهاد كان دائما امرا صعبا على مر العصور، ولكنى أزعم أيضا أن الناس يكونون اقل استعدادا لقبول الاجتهاد، وأكثر تصلبا وعنادا واصرارا على رفضها فى عصور «الانحطاط»، أكثر منهم فى عصور النهضة والازدهار الحضارى، إنى بهذا ازعم أمرين وليس أمرا واحدا، الأول ان الاستعداد لقبول الدعوة إلى الاجتهاد وممارسته بالفعل هو عامل أساسى من عوامل النهضة والازدهار الحضارى، والثانى إنه عندما تدخل الأمة فى حالة من حالات التدهور والانحطاط الثقافى والحضارى، تشتد مقاومة الاجتهاد ويزداد تصميم الناس على وجود تفسير واحد للنص المقدس، ولا تفسير غيره، رفض الاجتهاد أو قبوله إذن، هو سبب ونتيجة لحالة الحضارة والثقافة السائدة.

ينطبق هذا فى رأيى حتى على النصوص المتعلقة بالأخلاق، فقد يتصور البعض أن الأثر الأخلاقى للدين منبت الصلة بحالة الأمة الثقافية والحضارية، ولكن الملاحظ أنه حتى هذا الأثر الأخلاقى للدين، يتفاوت قوة وضعفا، بل ومن حيث مضمونه ومحتواه أيضا، باختلاف ما يعطى من تفسيرات لهذه النصوص، وهذه التفسيرات تخضع كغيرها للحالة الحضارية للأمة، ففى فترات الانحطاط قد يفسر الدين على نحو يتنافى مع ما تقتضيه المبادئ الدينية السامية، إذ قد يتحول الولاء للأمة أو للإنسانية جمعاء، إلى ولاء للقبيلة أو الأسرة، ويضاغ هذا الولاء الضيق أيضا فى صيغة دينية، وقد يفسر الدين تفسيرا يحض على التعاون فى أمور تتنافى مع مبادئ الدين، كالتعاون فى الغش فى الامتحانات مثلا، أو فى الثورة على حاكم وطنى.. إلخ، ونحن للأسف غرّ الآن بمثل هذه الحالة من حالات التدهور الحضارى، ومن ثم نادرا ما نسمع عمن يدعو إلى الاجتهاد فى تفسير النصوص، فإذا حدث وسمعنا عنه فنادرا ما نلتفت إليه.

دعانى إلى التفكير فى هذه الأمور، وآثار هذه المعانى فى ذهنى، مقال حديث للاستاذ فهمى هويدى نشر فى جريدة الشروق (٢٠١٤/١٠/٦) بنفس هذا العنوان «عن الدين والسياسة» وشعرت لدى قراءته بأنى اختلف معه فى كثير من النقاط، مما قد يستدعى كتابة مقال آخر.

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات