التمييز آفة الإنسانية - هنا أبوالغار - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 2:47 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التمييز آفة الإنسانية

نشر فى : الأربعاء 14 نوفمبر 2018 - 12:05 ص | آخر تحديث : الأربعاء 14 نوفمبر 2018 - 12:05 ص

يتحدثون عن مصر «بتاعة زمان»، «مصر اللى كان فيها حسن ومرقص وكوهين عايشين فى عمارة واحدة وعيالهم بيلعبوا مع بعض»، ولا أشك فى حقيقة ما نسمعه من أجيال عاشت هذا ورأته رؤى العين. إذا نظرنا إلى كلمة «تسامح» (Tolerance) نجدها تعنى أن بوسعنا التعايش مع من هم مختلفون عنا، و«التعايش» يختلف كثيرا عن «التحمل» (وهو موقف الكثيرين فى بلدنا من الآخر)، ففى التسامح تَفَهُم لاختلاف الآخر دون إحساس بالعبء، وفيه «قبول» لهذا الاختلاف وهو ما لا يعنى أن نتفق بالضرورة، لكنه بالتأكيد يعنى أن نتعايش فى احترام ورحمة، وأننا قادرون أن نرى مناطق تشابهنا الإنسانية التى لا تختلف مهما اختلف شكلنا الخارجى أو مكان صلاتنا أو لبسنا أو ما نأكله أو ميولنا السياسية أو قدراتنا الذهنية أو مكاننا فى السِلِم الاجتماعى أو فى صحتنا البدنية أو مستوى تعليمنا.. إلخ.
***
«التمييز» صفة قبيحة فى الإنسان، صفة قائمة على إلغاء «الفردية» والحكم على الإنسان بشكل سلبى لأسباب لا يد له فى اختيارها، فمثلا نستبعد شخصا، والده عامل بسيط، من كشف الهيئة لمؤسسة سيادية مستبعدين بذلك طبقة اجتماعية كاملة من فرصة العمل فى هذه المؤسسة وذلك دون النظر إلى قدرات هذا الشخص التى قد تتناسب أو لا تتناسب مع الوظيفة. افتراض أن التمييز دخيل علينا غير صحيح وهو حصر للمشكلة فى إطار الدين وهو أمر يصعب معه تشخيص المرض وعلاجه. فالتمييز آفة قديمة حتى فى مصر «بتاعة حسن ومرقص وكوهين». وأنا أدعوكم أن نتخيلهم الثلاثة ينتمون إلى الطبقة الوسطى فى ذلك الوقت، يعيشون فى نفس العمارة كجيران بينهم ود ومحبة حقيقية (لم يكن التمييز على خلفية الدين تفاقم بعد)، أبناؤهم يذهبون إلى نفس المدرسة، وكمثل معظم هذه الأسر فى ذلك الوقت لدى كلٍ منهم خادمة صغيرة من الأرياف، هذه الخادمة تنام على الأرض بينما أبناؤهم ينامون فى الأَسِرَّة، تحمل عن أبنائهم شنطهم إلى مدارسهم ثم تتركهم هناك ليتعلموا وتعود هى إلى المنزل تستكمل أعمال المنزل. هذا الظلم الواقع على الفتاة فقط لأنها منتمية إلى طبقة اجتماعية معينة لم يسمه أحد فى ذلك الوقت تمييزا لكنه لا شك كان كذلك (وهو تمييز ما زال يقع مشابه له يوميا فى بيوت كثيرة فى مصر). وكما مارست هذه الأسر الثلاث التمييز دون إدراك منهم مورس أيضا عليهم، فلو كان حسن أو مرقص أو كوهين تقدم لفتاة من نفس دينه من أسرة من الطبقة الأرستقراطية فى ذلك الوقت ما كان طلبه قُبِل أبدا، وهو تمييز على خلفية طبقية مورِس هذه المرة عليهم هم. يجب هنا أن نتوقف لنفهم أن قبول المجتمع على نوع من أنواع التمييز يجعله أكثر عرضه لممارسة التمييز من أنواع أخرى، ومحاربة التمييز الدينى يجب أن يصاحبها محاربة لكل أنواع التمييز إلى أن يصبح غير مقبول اجتماعيا أن تمارسه.
***
التصنيف والتمييز أدوات سياسية فالمستعمرون الأوروبيون استخدموها فى البلاد التى احتلوها، والقادة الفاشيون والديكتاتوريون من أيديولوجيات مختلفة، حتى تلك التى ارتكزت على فكرة العدالة الاجتماعية انتهى بهم الأمر أن خلقوا طبقة حاكمة مميزة وأخرى محكومة أقل تمييزا. حتى الثورات التى قامت اعتراضا على الظلم والتمييز (وأشهرها الثورة الفرنسية) خلقت طبقة مغضوبا عليها مميزا ضدها «كقبيلة»، يدفع فيها «الفرد» ثمنا غاليا لولادته فى أسرة أو ظروف بعينها، بغض النظر عن اقترافه جريمة أو لا. وبالطبع فإن الظلم يخلق غضبا وخوفا وعدم ثقة؛ لأن الخبرات تتراكم بين «الُمصَنَفين» من كل دين ولون وجنس وطبقة، فيزيد التباعد وينعدم الاختلاط بينهم وتتوارث الأجيال كل هذه الطاقة السلبية كما تتوارث الجهل التام بالآخر والذى يجعله أقل «إنسانية» فى عقلنا الباطن، فننسى أننا نتشابه فى حبنا لأبنائنا وخوفنا من المستقبل ومعاناتنا من نفس الضغوط الاقتصادية... إلخ.
ثمن التمييز غالٍ لأنه يشعل «المظلومية» داخل المميز ضده، فيبدأ فى تصديق أنه مسلوب القدرة على تغيير واقعه. كما أن الغضب والظلم والقهر لها طاقة تنتشر فى المجتمع فتمس من يمارسون التمييز ومن لا يمارسونه، فتجد الجميع يبحث عن الراحة فى مجتمعات أشبه بالفقاعة، يرهبون الاختلاط مع الآخر؛ لأن فى قرارة أنفسهم يحسون بطاقة الظلم الثقيلة المُحَمَل بها مجتمع بأسره فتشق قلبه وتهز جذوره. هذا الثمن تتوارثه الأجيال دون مراجعة لأسباب الكراهية. نناقشها فقط عند وقوع كارثة، قنبلة تحصد أرواح مصلين، مسلحين يهاجمون أتوبيس رحلات، قصة حب بائسة بين اثنين تتحول إلى حرب شوارع يستحل فيها الناس بيوت جيرانهم فيهجرونهم ويستولون عليها.. إلخ. نتوقف لحظات كافية لنشجب الحدث ونترحم على الضحايا ونستنكر أن يصل مجتمعنا إلى هذه القسوة ونتناسى كل المرات التى نمارس فيها نحن أنفسنا التمييز يوميا، فنحكم على شخص سلبا بعيدا عن فعله وقوله. فإذا أدركنا أننا جزء من الداء سنتحمل مسئولية إيجاد الدواء.
***
نحتاج أن نكون قدوة لأبنائنا، نتذكر أنهم يلاحظون كلماتنا، إيماءات وجوهنا، ونظرة أعيننا فى حديثنا مع الناس أو عنهم، يشربون منا حب الناس وقبولنا للاختلاف كما يشربون رفضنا لهم. من المهم أن نشجعهم على التنوع، أن نطمئن أن لديهم أصدقاء ودوائر اجتماعية لا تشبههم بالضرورة، وأن نساعدهم أن يتعاطفوا مع الآخر ويضعوا أنفسهم فى مكانه فيروا العالم من أعينه ليكونوا أكثر تفهما لزملائهم المختلفين من أول الطفل متحدى الإعاقة، مرورا بالطفلة الوافدة من مدينة أو مدرسة أخرى، إلى آخر الاختلافات التى تعطينا الثراء وتجعل منا مجتمعًا «بجد» وليس «مستوطنة». فالخطوط الحمراء يجب أن تكون فى أى تعدٍ على الآخر، فطالما لم يشجع الشخص على الكراهية أو الظلم أو العنف فالعقيدة وصاحبها لها احترامها حتى إذا كانت بعيدة عن معتقداتنا الشخصية.
الكراهية مرض معدٍ ينتشر مع كل غصة حلق يحس بها كل شخص مظلوم، وهو مرض يكبر فى قلبه وينتشر فى خلاياه وينتقل فى جيناته لأبنائه، ومع الوقت يصبح مرضا صعبا علاجه أو اقتلاعه، حيث تصبح صورة الآخر الذهنية السلبية قناعة وحقيقة يصعب تغييرها لدى جيل كامل.
فلنحاول أن نعالج المرض قبل أن نموت نحن وأبناؤنا كرها، ولنجعل الحب ديننا الذى يجمعنا.. قال الحلاج يوما: «مالى ومال الناس إن مالوا وإن عدلوا.. دينى لنفسى ودين الناسِ للناسِ».

هنا أبوالغار أستاذ طب الأطفال بجامعة القاهرة
التعليقات