أتحدث اليوم عن «صانعى البيوت»، أو الـHome makers، كما يطلق عليهم الغرب. من يعطون للبيوت طعمًا ورائحة، عن جهد ووقت وأعمال روتينية يومية داخل بيوتنا لا نلتفت إليها إلا إذا افتقدناها؛ لأنها لا تتم فى إطار «مهنة»، إلا أنها تحتاج إلى وقت وجهد فى عالم يُقيِّم كل شىء بالإنتاجية والمال. صناعة البيوت تُحوِّل المبنى إلى بيت، والوجبة إلى ذكرى حية، وروتين البيوت يملأ القلوب الصغيرة القَلِقة طمأنينة.
• • •
أمى السويدية، كريستينا أرفيدسون، جاءت إلى مصر شابة فى منتصف الستينيات بحثًا عن الدفء فى المناخ والبشر. جاءت لتعمل عامًا واحدًا كإخصائية علاج طبيعى فى مستشفيات القوات المسلحة، فى سنوات حروب كانت مصر فيها غير مستقرة سياسيًا واقتصاديًا، فبقيت فى المحروسة ستين عامًا وما زالت. أحبت مصر بصدق، لكن هذا لم يُنسِها السويد، فكانت تشتاق كثيرًا إلى بلدها وأهلها، خصوصًا فى المواسم.
أظن أن فى هذه الأوقات كانت تشتاق إلى بيت الطفولة فى قريتها الصغيرة جنوب السويد، حيث كانت جدتى أستريد أرفيدسون «صانعة بيوت» من الدرجة الأولى. يأتى الكريسماس كل عام فتتحول أمى إلى شعلة نشاط، ترغب بعزيمتها وعِندِها المعهود أن تنقل الكريسماس من «ألفستا»، القرية الصغيرة، إلى شقتنا المتواضعة الجميلة فى العجوزة. فتُخرج صندوق زينة الكريسماس، صندوقًا احتفظت به عبر السنوات، تراكمت فيه الذكريات قطعة قطعة. جزء كبير من هذه الزينة صنعناه نحن، أنا وأختى، على ترابيزة السفرة فى بيتنا: ورق ملوّن وقماش ولاصق ومقصّات، ننشغل لساعات وأيام لعمل قطع بسيطة من الزينة تُعلّق فى أنحاء بيتنا كله، حتى حجرات نومنا.
كنا نساعدها فى عجن البسكويت، وكانت تحكى لنا أن جدتها وأمها لم يكنّ يرضين بأقل من سبعة أصناف، أما هى فكانت «تضطر» لتقليلها إلى خمسة أنواع، بالإضافة إلى البون بونى والكراميل الذى كان يلصق فى الأسنان وينتج عنه زيارة سنوية لطبيب الأسنان بعد الأعياد. عندما تقترب ليلة عيد الميلاد، تقضى ساعات فى مطبخنا الصغير لإعداد أكلات سويدية أصيلة تحتاج أحيانًا إلى مكونات غير متوافرة أو غير ملائمة لنا فى مصر؛ لا نجد علب الأنشوجة بسهولة، ولا نأكل الخنزير، لكن أمى أخذت تُجرِّب وتُغيِّر فى المقادير، وتستبدل الخنزير بالبتلو، وتضع زبدة لتعوض الدهون، وتستخدم الكركديه بدلًا من النبيذ وتسخنه وتضع فيه كل بهارات مشروب الكريسماس السويدى التقليدى. ومع مرور السنوات ضبطت الوصفات، وكانت مائدة الكريسماس عامرة، سويدية الروح والطعم، مصرية المكونات، غنية بالزينة وبرائحة خاصة للبيت، وبجمع من صديقاتها الإسكندنافيات وأسرهن، الذين عوضوها وعوضونا عن بُعدنا عن أسرتنا فى السويد؛ ثلاث سيدات تركن بلادهن ونجحن فى خلق "بيت" فى الغربة.
• • •
أمى هذه نفسها، فى ليالى عيد الفطر أو الأضحى، وقبل اعتماد التقويم الفلكى، كانت تفاجأ أن العيد غدًا بدلًا من بعد الغد، وهى قد اشترت القماش لتفصيل فساتين العيد لابنتيها، لأن هذه التقاليد «هكذا نصنع البيوت». وبعد وصلة من البرطمة لأن خطتها الوقتية فشلت، كانت تجلس فى حجرة نومى، حيث ماكينة الخياطة على ترابيزة طويلة صنعتها خصيصًا لهذا الغرض، فتقصّ وتخيط طوال الليل. كنت أنام على صوت الماكينة الرتيب كأنه مهدئ، وأصحو لأجد فستانين جديدين لى ولأختى، من نفس القماش ونفس الموديل، وأحيانًا تكون قد صنعت لنفسها فستانًا مشابهًا.
فى بيت شفيقة عبد الهادى، المصرى جدًا، جدتى لأبى، الملكة المتوجة فى أسرتنا فى «صناعة البيوت»، كنت أيضًا أنام على صوت ماكينة الخياطة التى خاطت عليها ملابسها وملابس عماتى الثلاث، واللائى أصبحن بدورهن مثلها؛ بيوتهن عامرة بالسكن والدفء. كل بيت له نظامه المختلف عن بيوت أخرى، لكن النظام موجود، واللمسات موجودة، والأكل حتى لو خضار تقليدى تستغرب لطعمه الرائع الخاص جدًا. تدخل الصالة عند أى من عماتى تجد فيها لَمّة لأفراد من الأسرة حاضرة، وكأن كل بيت به مغناطيس جاذب للأحبة. الثلاجة منظمة مثل ثلاجة جدتى رحمها الله، لا تنفجر بما لا نحتاجه، وفى نفس الوقت كل ما تحتاجه فيها ويفتح النفس من طزاجته. يفتحون لك باب الشقة فتشم رائحة زكية خاصة جدًا به، رائحة البيوت العامرة.
• • •
لدى صديق عزيز من جيل الثمانينيات، رجل انفصل عن زوجته منذ سنوات وأصبح بين يوم وليلة مسئولًا عن أبنائه وإدارة بيته. عندما زرته بعد الطلاق بأيام كان بيته باردًا ومظلمًا، هجرته البهجة؛ به أَسِرّة وكراسى، لكنه مبنى بلا روح. كان هو قليل الخبرة بإدارة المنزل، لدرجة أنه كان مقتنعًا تمامًا أنه لا يستطيع عمل كوب شاى لنفسه. فى خلال عام واحد كان اكتشف بداخله «صانع بيت» شغوف؛ غيّر لون الجدران، واستبدل الأثاث كله، ووضع بصماته وذوقه. خلق لأبنائه نظامًا ومواعيد وتقاليد وآداب تعايش؛ يتشاركون فى إعداد الطعام وأعمال المنزل، يتابع التدريبات والدروس، وجباتهم يأكلونها معًا، ويتشاركون الاهتمامات بالرغم من انشغاله الشديد فى العمل. بيته الآن له طعم ورائحة خاصة بصاحبه.
«البيت» هو الفارق بين طفولة جيل السبعينيات والثمانينيات، أمراضه عضوية، وجيل الألفينات وما بعده، الذى تتصدر الأمراض النفسية خريطته الصحية. «البيت» هو روتين أسرى وتقاليد اجتماعية وعائلية تنتقل بين الأجيال، فأرى فى ابنتى ملامح من جدتى وأمى، تُثبتنا فى الأرض وتُذكرنا أن جذورنا قوية عفيّة، مليئة بالخبرات والذكريات المطمئنة. «البيت» هو أول وحدة مجتمعية كوّنها الإنسان، أدت إلى استقراره بقدر كافٍ أن يصنع حضارة؛ فقبل البيت كان كل إنسان مسئولًا بمفرده عن أمنه ومعيشته.
• • •
ليست كل البيوت محظوظة بوجود من يحمل فى قلبه شغفًا وعطاءً لها. مع تغير أولوياتنا، ومفهومنا للنجاح، وسرعة الحياة، أصبح الاستثمار فى البيوت رفاهية وأحيانًا هدرًا لوقت ثمين. قيمة «صناعة البيوت» غير مقدَّرة؛ لأننا نظن أن من الممكن استبدالها بعمالة تطبخ أو تنظف أو تُدير، وهذا صحيح؛ كلها مهام يمكن الاستعانة بمن يساعد فيها أو يقوم بها. لكن إن لم يكن لهذا البيت «صانع» يُدير وينظم ويضع من قلبه وشغفه فى التفاصيل، تتحول البيوت إلى مؤسسات جيدة الإدارة، لا طعم للحياة فيها ولا ذكريات.
ما يهمنى هنا أن أقوله إن «صناعة البيوت» تحتاج إلى وقت وجهد وحب، وأنها ليست مقصورة على النساء ولا على جيل ولا على ثقافة أو بلد؛ فهى موجودة بداخل كلٍّ منا. صناعة البيوت تستحق التقدير والامتنان، قد يأتى يوم نكتشف أن تأثيرها على مستقبل كل فرد فى الأسرة، كبيرًا وصغيرًا، أكبر كثيرًا مما نظن، وأنها تُغنى من يقوم بها وتُثرى كل من حوله.
أستاذة طب الأطفال بجامعة القاهرة