حامد الموصلى.. مُبْدِعٌ فى ساحة «التكنولوجيا الوطنية» - نبيل مرقس - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 6:06 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حامد الموصلى.. مُبْدِعٌ فى ساحة «التكنولوجيا الوطنية»

نشر فى : الأحد 14 نوفمبر 2021 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأربعاء 17 نوفمبر 2021 - 11:02 ص
«فى واحدةٍ من دراساتى الميدانية فى الساحل الشمالى الغربى لمصر، كان مرشدى شابًا بدويًا فى السابعة عشرة من عمره فى ذلك الوقت. كان أمِيًّا، لكنه كان يمتلك معرفة مذهلة عن المنطقة التى يقطنها. كان يعرف جيدًا التكوينات الجيولوجية للمنطقة، وبالتالى العمق الذى يمكن أن نجد عنده المياه الجوفية، وطرق حفر الآبار، وأيضًا أسماء النباتات الطبية وكيفية استخدامها فى علاج الأمراض. كانت معرفته من النوع الذى يستعصى اقتناؤه على زميلى الباحث «الأكاديمى» الأستاذ فى كلية الزراعة. هذا النوع من المعرفة، وهو ما أطلق عليه المعرفة المنتمية: المعرفة الفريدة التى يحظى بها كل فرد من خلال عضويته فى مجتمعه المحلى.
المعرفة هى منتج إنسانى، هى نتاج لنشاط إنسانى حيّ يحدث فى سياق اجتماعى/حضارى محدد. وبالتالى فإن إنتاج معرفة جديدة يرتبط بتحرير الأنساق الاجتماعية/ الحضارية المقهورة والمهمشة وإطلاق سراح قواها الحيّة والخلَّاقة القادرة على الإبداع والتفكير والتخيُّل».
د. حامد الموصلى، مواردنا من المواد المتجددة: قاعدة مادية للتنمية الذاتية المستدامة فى مجتمعاتنا المحلية، فى كتاب «الإسهام العربى المعاصر فى الثقافة المحلية: حوار عربى ــ غربى»، تحرير وتنظير د. مجدى يوسف، مكتبة الإسكندرية، 2020.
•••
يرشدنا د. حامد الموصلى، أحد رواد «التكنولوجيا الوطنية» فى مصر، إلى واحدٍ من الينابيع الثرية التى يلجأ إليها الباحث والعالم المبدع وهو يستشرف طريقه نحو الإسهام فى صياغة المخرجات العلمية والتكنولوجية التى تسهم فى إنجاز مبادرات «التنمية المستقلة» على أرض الوطن، ألا وهو التراث التقنى المضفور فى نسيج الثقافات المحلية التى تشكل المخزون الحضارى لهذه الأمة. وتعود علاقتى الإنسانية والفكرية الحميمة والممتدة بهذا العالم المبدع إلى عام 1977 أثناء عملى كباحث بمعهد التخطيط القومى، حيث لقيته مصادفةً فى مكتب أحد أساتذة قسم الاجتماع والأنثروبولوجيا بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، واكتشفنا بشكلٍ يثير الدهشة تقاربنا الشديد فى عديدٍ من الاهتمامات الفكرية وتشابهنا فى كثيرٍ من القسمات الإنسانية. ثم شاركنا معًا كفريق فى أوائل الثمانينيات فى عددٍ من الندوات واللقاءات العلمية بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، دعينا إليها كمهندسين نسعى إلى الاقتراب الخلَّاق من الأدوات والمناهج البحثية للعلوم الاجتماعية. وساهمنا معًا مع آخرين فى عام 2003 فى تأسيس الجمعية المصرية للتنمية الذاتية للمجتمعات المحلية. وخلال هذه الرحلة الطويلة، جرت بيننا حواراتٌ متصلة حول كيفية إعادة صياغة معارفنا الهندسية والتقنية التقليدية لتتحول إلى معارفَ أكثر وعيًا وانفتاحًا على علوم العصر وإبداعاته المتعددة، ولتصبح أكثر «إنسانية» وأقل اغترابًا من خلال الاقتراب المتواضع والتفاعل العميق مع مجتمعاتنا المحلية المصرية والسعى الجاد إلى التعرف على حقيقة الإنسان المصرى ذى الحضارة العريقة بغرض الإسهام فى خدمة احتياجات تنميته وتحديثه دون أن نفقده الثقة فى هويته الحضارية الأصيلة. وفى هذا السياق ذكر لى د/ الموصلى مؤخرًا أن لحظة «التنوير» التى فتحت أمامه الطريق فى سعيه الدءوب لإقامة مدرسة علمية وبحثية جديدة فى مجال «التكنولوجيا الوطنية» كانت فى نوفمبر 1979، حين قام بزيارة مدينة العريش ضمن وفدٍ علمى متعدد التخصصات من أساتذة جامعة عين شمس ــ وذلك بعد رفع العلم المصرى على هذه المدينة احتفالًا بخروج قوات الاحتلال الإسرائيلى فى السادس والعشرين من مايو 1979 ــ وتعرفه للمرة الأولى على «السقف العرايشى».
•••
جَسَّدَ «السقف العرايشى» بمكوناته من الخامات المحلية والتقنيات المتوارثة، والذى قامت بإبداعه الأسرة العرايشية الممتدة التى لم تتوقف عن التمسك بتقاليدها الحضارية العريقة فى مواجهة المحتل الإسرائيلى الغاصب ومحاولته القسرية لهندستها اجتماعيًا وحضاريًا، معنى «المقاومة» من خلال إعادة اكتشاف القيمة الحقيقية للخامات المحلية ذات الأصول النباتية المتجددة، وأيضًا جدوى استخدام التراث التقنى المحلى الذى يعبر عن إبداعات الأقدمين فى مواجهة تحديات ثقافية وتنموية بالغة الصعوبة ونمط احتلال استيطانى يريد عنوةً تغيير الهوية الحضارية لسكان الأراضى العربية المحتلة. ولقد تعرف د/ حامد الموصلى على مكونات السقف العرايشى من أعواد الجريد المرصوصة «خِلْفْ خِلاَفْ» لتُكَوِّن «حصيرة» مربوطة بإحكام بأحبال الليف المصنعة محليًا (راجع الشكل رقم 3 / ص 80، فى كتاب «الإسهام العربى المعاصر فى الثقافة العالمية: حوار عربي ــ غربى، مكتبة الإسكندرية، 2020). وتعلم د/ حامد من واقع دراسته الميدانية كيف يتعاون كل أفراد الأسرة العريشية الممتدة ــ بمن فيهم الأطفال ــ فى «ضرب الطوب» باستخدام مادة الطفلة التى تتجمع فى مخرات السيول حيث يتم إضافة تبن القمح وقشر الشعير لإضفاء بعض الصلابة على قوامها السائل. ثم يتم تجفيفها شمسيًا داخل قوالب خشبية منتظمة لتصبح بعدها قوالب من «الطوب النى» يستخدمها «البَنَّا المحلى» بمساعدة جميع أفراد الأسرة الممتدة فى إقامة المسكن العرايشى التقليدى، الذى أصبح نقطة البداية فى بحث د/ الموصلى الدءوب عن نماذج رائدة للتكنولوجيا الوطنية فى مصر والوطن العربى. ولقد أوضحت البحوث العلمية التى أجراها د/ الموصلى إمكانية توافر كميات كبيرة من جريد النخيل سنويًا ناتجة عن التقليم الموسمى للنخيل، وهى إحدى العمليات الهامة فى خدمة زراعات النخيل لإزالة السعف القديم الذى توقف عن القيام بوظيفته الحيوية لتقدمه فى العمر. وقدمت لحظة «التنوير» العرايشية للدكتور الموصلى، عناصر تجربة اختبارية طبيعية مر عليها مئات السنين تكشف عن إمكانات خامة جريد النخيل كمادة هندسية من أصول نباتية متجددة تتميز بقوة التحمل وجودة خواصها الطبيعية والميكانيكية. وقام د/ الموصلى بعدها بإجراء الاختبارات القياسية المتعارف عليها دوليا فى معامل كلية الهندسة بجامعة عين شمس، ليثبت أن جريد النخيل يتمتع بخواص طبيعية وميكانيكية تقترب من مثيلاتها لأنواع الأخشاب اللينة والصلدة التى نستوردها من الخارج وتدخل فى صناعة الأثاث الحديث. وقد حصل هذا الكشف البحثى الهام على جائزة مؤتمر يوروميت ــ97 فى مدينة ماستريخت بهولندا فى أبريل 1997.
ومن جانبٍ آخر، قدم «القفاصون» المصريون من خلال ملاحظة ممارساتهم التقنية المتوارثة فى «سلخ» أعواد الجريد (تقشير ألياف الجريدة طوليًا) بالاقتران مع نتائج الكشف العلمى المتميز للدكتور مجاهد مبروك مجاهد الأستاذ بزراعة الإسكندرية عن الصفات التشريحية لجريد النخيل أحادى الفلقة (يتميز جريد النخيل تشريحيا بوجود ألياف فى الاتجاه الطولى دون روابط عرضية كما فى حالة الأخشاب التقليدية ثنائية الفلقة)، قدمت هذه الحزمة المعرفية الفريدة فرصة إبداعية جديدة عمل على اقتناصها د/ حامد الموصلى وفريقه الوطنى للبحث والتطوير. وتجسد هذا الإبداع الوطنى فى صورة ماكينة مصرية يمكن استخدامها بواسطة النساء الريفيات داخل بيوت القرية المصرية، تقوم على استخدام تقنية السلخ فى إنتاج «سدائب» هندسية منتظمة من جريد النخيل يمكن تجميعها يدويًا داخل «فورمات خشبية» لتصبح بعد لصقها حصائر يتم استخدامها فى صناعة الأثاث الحديث. والذى وجدت بعض قطعه فائقة الإتقان والجمال المنتجة من جريد النخيل بأيدى أهالى قرية القايات - وهي من أكثر القرى احتياجًا بمحافظة المنيا- المدعومين فنيًا وتدريبيًا من قبل الجمعية المصرية للتنمية الذاتية للمجتمعات المحلية التى يترأسها د/ الموصلى (ويقود فريقها الميدانى المهندس عمر عبدالمنعم مدير المشروع مع متابعة مالية وإدارية من الأستاذ مصطفى محمد على، ويساندهم دعمٌ مالى مشكور مقدم من SIDA الوكالة السويدية للتعاون الدولى فى مجال التنمية)، وجدت طريقها إلى منزل السفير السويدى السابق بالقاهرة مستر يان سيزليف فى نهاية عام 2017.
•••
ويقدم لنا النموذج الثانى من نماذج «التكنولوجيا الوطنية» العديدة التى استلهمها د/ حامد الموصلى فى تفاعله الخلاق مع التراث التقنى المختزن فى النسيج الثقافى للمجتمعات المحلية، مبادرة إبداعية أطلق شرارتها ــ بتعبير د/ الموصلى ــ فتيات أحد المجتمعات البدوية فى محافظة الوادى الجديد. ففى هذا النموذج، تمكنت مجموعة من الفتيات البدويات من قرية الجديدة فى الواحات الداخلة بمحافظة الوادى الجديد فى سياق مشروع نشر صناعة الأرابيسك من جريد النخيل عام 1995 كبديل عن استخدام خشب الزان المستورد والذى قام بتنفيذه د/ الموصلى بمساعدة المهندس رأفت درويش (من خلال مركز تنمية الصناعات الصغيرة بهندسة عين شمس وبدعمٍ مالى من GIZ الوكالة الألمانية للتعاون الدولى) تمكنوا باستخدام «فطرتهم» المبدعة من توظيف مخرطة الأرابيسك فى «خرط» شمعدان خشبى من نواتج تقليم شجر الجوافة. وقد استلهم د/ الموصلى من هذا الإبداع الفطرى لبنات الجديدة، فكرة مشروعه الرائد عام 1996 بمركز تنمية الصناعات الصغيرة بهندسة عين شمس (بمساعدة المهندس شوقى حسنين وبتمويلٍ من كلية الهندسة، جامعة عين شمس) فى تحويل نواتج تقليم أشجار الفاكهة من نفايات زراعية يتم إحراقها فى الحقل أو بيعها إلى تجار الفحم النباتى، إلى بديل للأخشاب المستوردة التى تكلف الاقتصاد القومى ما يزيد على مليارين من الدولارات الأمريكية سنويًا (بتقديرات عام 2014). هذا البديل المحلى يدخل فى صناعة الأثاث والحرف اليدوية والمشغولات الخشبية، ويضيف إليها أبعادًا جمالية رائعة. ولقد استخدم د/ الموصلى العمليات المعروفة فى تراث الممارسة التقليدية للنجارة فى مصر مثل القطع بالمنشار، التشكيل، الحفر، الصنفرة، والدهان إلى جانب التقشير الدائرى لجذوع شجر الفاكهة، فى إنتاج الآتى: قاطوع من الأرابيسك من خشب الموالح والمشمش، كونصول وجَزَّامَة من خشب المشمش، باب شقة خارجى من خشب المشمش، ترابيزة ستيل بها أويما بالأرجل من خشب المشمش، ترابيزة يغطيها لوح كونتر من جريد النخيل تعلوه قشرة من خشب المانجو.
ومازال د/ حامد الموصلى وهو يقترب من عامه الثمانين ــ أطال الله عمره ــ يسرع الخطو ليلتقى بالزمن القادم، فهو يواصل العمل على إنتاج نموذج أكثر كفاءة من ماكينة تسديب جريد النخيل باستخدام تقنية السلخ بمساعدة من د/ محمود زكريا ود/ محمد هداية فى الجوانب الفنية، مع متابعة مالية وإدارية من الأستاذ إسماعيل الموصلى، وتدعمهم منحة مالية كريمة من هيئة دروسوس السويسرية. ويأمل د/ الموصلى فى أن يصبح هذا النموذج الجديد متاحا فى المستقبل القريب فى كل أرجاء الريف المصرى. وهو يرى بعين الرائى ذى البصيرة أن شجر النخيل وأخشابه البديلة فى عالمنا الثالث سوف تزيح أخشاب الغابات القادمة من العالم الأول الذى يعانى من ظواهر الاحتباس الحرارى وحرائق الغابات وانكماش الغطاء النباتى من الغابات. وهو يتجه برؤيته الطليعية عن أهمية إسهام الخامات المحلية ذات الأصول النباتية المتجددة فى إنجاز التنمية الذاتية المستدامة فى زمن الاضطراب المناخى إلى العالم من خلال كتاب جديد ينشر بالإنجليزية من خلال دار النشر العالمية Springer. كما يقدمها إلى المنطقة العربية من خلال إسهامه فى كتاب لمنظمة الفاو الدولية بالإنجليزية عن سلاسل القيمة المرتبطة بالمنتجات الأساسية والثانوية لنخيل التمر فى السودان، وأيضًا مشاركته فى المؤتمر الدولى السابع لنخيل التمر فى أبو ظبى بالإمارات العربية المتحدة ــ فى مارس 2022 ــ بورقة عن استخدام المنتجات الثانوية لنخيل التمر كمنصة لإطلاق اقتصاد حيوى دون مخلفات. وهو يؤمن فى أعماقه بالحكمة القديمة التى تقول: «ارم خبزك على وجه المياه.. فإنك تجده بعد أيامٍ كثيرة».
نبيل مرقس باحث بمعهد التخطيط القومي (سابقاً)
التعليقات