تراجع الأديان في هذا الزمان - إكرام لمعي - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 6:37 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تراجع الأديان في هذا الزمان

نشر فى : الجمعة 15 أبريل 2022 - 8:45 م | آخر تحديث : الجمعة 15 أبريل 2022 - 8:45 م
فى استطلاعات عشوائية للرأى العام بأمريكا، لوحظ أن هناك تراجعا بين أتباع العقائد الدينية بلا استثناءات سماوية كانت أو وضعية، وخاصة بين قطاع المثقفين والعلماء من ناحية، وقطاع الشباب (٢٠ – ٢١ سنة) من الناحية الأخرى. بالطبع معظمنا يشعر أن هذه الظاهرة تتضح أكثر بين الأجيال الجديدة، فهم أقل اهتماما بالدين عن الأجيال الأكبر سنا، لكن السؤال الذى يلح علينا هو: هل هذا صحيح وواقعى فى بلادنا خاصة والشعوب العربية والإسلامية من أكثر الشعوب تدينا؟!
من المتعارف عليه أن التفاعل بين المؤسسات الدينية من ناحية والسلوكيات والمعتقدات الدينية على الأرض من الناحية الأخرى يَصُعب التخطيط له، ذلك لأن تطور وتنوع المشاعر الإنسانية تتغير باستمرار بحسب تطور الحضارة (العلوم، الفنون، اللغات... إلخ)، بينما الكتب المقدسة ثابتة، ففى أوروبا وأمريكا مثلا يرددون أنهم يعيشون فى زمن نهاية الحضارة المسيحية (التاريخ والجغرافيا والفنون والثقافة... إلخ)، تلك الحضارة التى هَزمت فى القرون الأولى الثقافة الوثنية ومؤسساتها ودياناتها وفنونها ومعاقلها وانتصرت عليها نهائيا فى معظم بلدان العالم بنهاية القرن الرابع الميلادى، إلا أن هذه الحقبة انتهت تقريبا باعتناق البابا يوحنا الثالث والعشرين، وهو بابا الكنيسة الواحد والستون (١٩٥٨ــ١٩٦٣م)، التعددية الدينية. لكن رغم ذلك تتفق الأكثرية بأن ما ينحسر وينتهى ليس هو الإيمان بالدين المسيحى أو الإسلامى أو اليهودى أو غيرهم من الأديان الأخرى، لكن الذى يتراجع هو الثقافة الدينية، أى الطريقة التى تُحكم بها المجتمعات الدينية والاعتقادات والمؤسسات التى نشأت تحت مظلة الأديان، ففى الغرب يُشكل المجتمع المسيحى مصدر المعايير الثقافية فيه وخاصة موروثاته الأخلاقية... إلخ، وإذا تابعت ــ عزيزى القارئ ــ التلفزيون الإنجليزى أو الفرنسى أو الأمريكى... إلخ، تجده مليئا بحوارات وتحليلات حول أهمية التمسك بنقاء الضمائر الدينية ورفض زواج المثليين من معظم المجتمعات، وفضح ورفض رجال الدين المتحرشين بالأطفال... إلخ.
• • •
إن مسار التغيير الحضارى الأوروبى والجارى فى ضوء ما حدث منذ ١٦٠٠عام والذى أطلق عليه مصطلح «الانقلاب المعيارى» لروما الوثنية، بالتركيز على الحضارة المسيحية وخاصة فيما يتعلق بالجنس والأسرة من ناحية والرهبنة والتبتل من الناحية الأخرى اختلف تماما، فما يحدث اليوم وبقوة هو محاولة إزالة المغالاة الدينية المسيحية فى الحياة الثقافية الغربية. إن ما يحدث اليوم هو تراجع وارتداد إلى الوثنية القديمة لكن بصورة عصرية، بالطبع لم يكن للوثنية القديمة تعريف محدد دقيق قط، كان القانون والحضارة واللغة والتاريخ الرافضين للوحى المسيحى سواء كانوا من المشركين أو عباد الطبيعة واللا أدريين، وكانت لفظة «أممى» يوصف بها المجتمع الريفى، وفى نفس الوقت تعنى الوثنى، وهكذا تحمل معها ازدراء لسكان الريف وساكنى الغابات.
بالطبع وبحسب ما درسناه وفهمناه ورأيناه بعيوننا لم تكن الثقافة الوثنية فى روما أمرا بسيطا لا قيمة له أو يمكن تجاهله، بل العكس هو الصحيح فقد كان لتلك الثقافة الوثنية فنانوها ومفكروها، فضلا عن الطبيعة القوية، والمتجذرة تاريخيا، ولم يكن من الممكن رفضها، أو عزلها من الوجود ببساطة، فلطالما مارست الوثنية تأثيرا عميقا فى تفكير الإنسان الغربى. وجاء عصر النهضة بإعادة اكتشاف الفلاسفة الرواقيين والأبيقوريين وغيرهم السابقين والمعاصرين للمسيحية من الأمثلة المعروفة.
لقد اعتقد الوثنيون أن رفض وانهيار معتقداتهم يعنى انهيار روما وحضارتها وتاريخها، لكن هذا لم يحدث وما كان فى الإمكان أن يحدث والدليل على ذلك أن هناك من يعتقد ــ نفس الأمر من المحافظين فى القرن الحادى والعشرين ــ بشأن تآكل القيم المسيحية، وفى كل مرة أسافر لأمريكا أسمع مثل هكذا تعبيرات: لقد انتهت القيم التقليدية فى أمريكا شكلا وموضوعا تاريخا وتراثا... إلخ، لكن الحقيقة غير ذلك تماما فالمجتمع الأمريكى مفتوح بطبيعته وحرياته يعيش متطفلا على الميراث الحضارى المسيحى، وأنه عندما ينهار هذا الميراث، سوف تنهار الحضارة تبعا له، وهذه النظرية كما تنطبق على الحضارة الغربية التى تحمل الديانة المسيحية تنطبق أيضا على الحضارة العربية الإسلامية التى تحمل الديانة الإسلامية، وكذلك تنطبق على الحضارة الصينية والهندية... إلخ التى تحمل الديانات البوذية والهندوسية والكونفوشيوسية... إلخ. فالديانات محمولة على الحضارات، فعندما ينتهى الميراث الحضارى تنتهى الحضارة التابعة له من لغة وأديان وعادات وتقاليد... إلخ، إلا أن البعض يشير إلى أن المبادئ الأخلاقية للعصر المسيحى جرى إطلاقها بافتراضات غير مُعترف بها من القيم الوثنية التى حلت المسيحية محلها، هنا علينا أن نأخذ نموذجا لذلك، الفلسفة الرواقية والأبيقورية، وهذه الفلسفات كانت منتشرة جدا قبل المسيحية، وكان فيلسوفها يُدعى زينو، وكانت تؤمن بوحدة الوجود أى الله والكون معا أو كيانا واحدا، وبقسم أبقراط الذى يردده خريجو وخريجات كلية الطب حتى اليوم... إلخ بالطريقة نفسها، لكن مع التأمل البسيط نكتشف أن تقدمية وتحضر ما بعد المسيحية أتت وتأتى بمساعدة كبيرة من الحضارات السابقة لها كثقافة وليس كدين، لذلك إذا ظهرت حضارة أخرى لتحل محل المسيحية أو الإسلام، فلن تكون مجرد أفكار كالإلحاد أو العدمية بل سوف تكون حضارة متكاملة منافسة لها منطقها الخاص، وقد تقوم بتحطيم بعض المعتقدات التقليدية اليوم لكن الحضارة أكبر وأبعد من ذلك بكثير. لذلك علينا التفرقة بين المعتقدات الأصيلة التى تقوم عليها الأديان وبين أشباهها التى تُبنى عليها كشجرة اللبلاب لكنها بلا جذور حقيقية، فمثلا المسيحية (الدين) فيها تعاليم عن محبة الجار، وتحويل الخد الآخر لمن لطمك، وهو أمر مثير للإعجاب لكن بالنسبة للتاريخ المسيحى كانت هذه الوصية مصدرا من مصادر التضارب؛ فالمسيحية أنتجت بعض المتعصبين المعاندين، بل والمتشددين، ويظهر ذلك بوضوح لافت للنظر أن هناك دائما توترا قائما بين التعاليم المسيحية من ناحية وسعى المسيحيين إلى السلطة السياسية والحكم... إلخ، من الناحية الأخرى.
بالتأمل فيما حولنا وفى الدول المسيحية العريقة نكتشف أن النظام العام أصبح يُشبه نظام روما القديمة الوثنية، حيث كان الدين والأخلاق منفصلين، وكان الدين مسألة تخص العائلة أما الأخلاقيات فكانت محددة وواجبة من قبل نخبة من المجتمع الذين يهتمون بالسياسة، وسواء كان المجتمع متسامحا مع الأفكار المختلفة والمتنافسة أو لم يكن، فإن الأمر لا يتعلق بالمكانة الدينية التى يتمتع بها زعماؤه بقدر ما يتعلق بموقفهم فى دورة تاريخية معينة لها توجهاتها الدينية والسياسية والأخلاقية.
• • •
عندما نجح المسيحيون فى روما عام ٣٨٤م بإزالة مذبح النصر الوثنى من مجلس الشيوخ الرومانى، حيث كان ما زال قائما منذ اعتناق المسيحية ما يقرب من أربعة قرون، أدرك رجل الدولة الوثنى سيماخوس أن التسامح المسيحى فى روما سوف يُرفع من الآن فصاعدا عن أولئك الذين شيدوه والناس يجدون أن مثل هذه المشاعر مُلهمة، لكن الأنظمة لا تفعل ولا تفهم ذلك فى المعتاد. وبعد عقد من الزمان كان الإمبراطور المسيحى ثيودوسيوس يحظر الألعاب الأولمبية على أساس وجود الكثير من انكشاف أجساد اللاعبين، دون أى اعتراض من الحس السليم، إذ تحولت الحكمة التقليدية إلى النزعة الدوجماطيقية (العقائدية) ولا يزال الأمر كذلك فى أغلب الأحيان شرقا وغربا شمالا وجنوبا.
إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات