تعتبر مشاهدات بن بطوطة (المتوفى فى 1377) من أهم سجلات عصره، وقبل أن نعرض لمشاهداته فى بلاد الفولجا والبلغار والقرم سنتحدث عن رحلته وأهم محطاته قبل الوصول إلى بلاد الفولجا وبحر قزوين والقرم والبحر الأسود.
العالم الذى ظهر فيه بن بطوطة
هناك ثلاث نظريات تفسر العالم الذى ظهر فيه ابن بطوطة قبل 700 سنة، خلال زيارته للبلاد التى نعرفها اليوم باسم تركيا وأوكرانيا وروسيا.
تقول الأولى إن انقلاب الممالك والإمبراطوريات التى مر بها ابن بطوطة ليس إلا استجابة للتغير المناخى والحتم البيئى. هذه النظرية ترى العالم متحركا وفق صراع الموارد والثروات: البشرية والطبيعية.
قبل 700 سنة، وحين كان ابن بطوطة يقوم برحلته كان العالم محكوما بمفاهيم لا تختلف عن مفاهيم الصراع على الموارد التى نشاهدها اليوم، إذ كانت الشعوب البدوية المعدمة الفقيرة فى العمق الآسيوى يستوى عندها الموت والحياة، ومن ثم شن هؤلاء البدو هجومهم على الممالك والدول الغنية التى تعيش فى رغد وبحبوحة.
ومن دلائل هذه النظرية أن القوى التى ظهرت من أمثال دول المغول وممالك السلاجقة فى الزمن السابق على رحلة ابن بطوطة إنما جاءوا من أراض تعانى التغير المناخى وقحط الموارد، ولم يكن أمامهم من مفر سوى الهجوم الكاسح على دول الجوار الغنية لاقتناص ثرواتها وقرصنة مواردها.
هذه النظرية حاضرة حتى فى القصص الدينى الشهير بثنائية الجدب والقحط الآسيوى مقابل الجنان المصرية فى كل من قصة يوسف عليه السلام، أو قصة بنى إسرائيل وموسى، ومن قبل كل هؤلاء قصة إبراهيم أبو الأنبياء الذى ضرب قومه عوز وجفاف وقحط فجاء إلى مصر وأهداه فرعون مصر (وفقا لأسفار العهد القديم) ثروة حيوانية كبرى كانت كفيلة بأن تضمن له حياة آمنة فى الأرض التى أصابها الجفاف والجدب وتقلب المناخ خارج حدود المعمور المصرى.
النظرية الثانية متعلقة بالبنية الداخلية للأمم وتقول إن الدول العظمى حين تبلغ من المتاع والراحة مبلغا كبيرا سرعان ما يصيبها الوهن والضعف وتتفشى فى ملكها حياة اللهو والركون إلى المتعة والاغتراف من حلو الحياة ومباهجها.
ولعل هذا يفسر مثلا كيف انهارت الخلافة العباسية أمام كل من غزو بدو الأتراك السلاجقة وأمام بدو التتر والمغول فى الفترة السابقة على ظهور ابن بطوطة وقيام رحلته الشهيرة إلى العالم الذى ستقوم فيه روسيا لاحقا.
ويبدو أنه يمكننا أن نجمع النظريتين السابقتين معا، فالشعوب التى كانت تعيش على حافة الصحراء والموت فى عمق القارة الآسيوية وجاء منهم المغول وشكلوا «عقابا إلهيا» على الشعوب التى تعيش فى بحبوحة من العيش إنما اكتسحوا كل ما فى طريقهم بعد أن نمى إلى علمهم حالة الوهن والضعف فى كل من الإمبراطوريات الفارسية والعباسية والبيزنطية فهجموا فى فترات متعاقبة من التاريخ ليحتلوا أرض هذه الإمبراطوريات التى صارت تعيش فى دعة ومباهج وضعف وتراخت عن القتال.
الصراع السياسى فى زمن بن بطوطة
العالم الذى ظهر فيه ابن بطوطة قبل 700 سنة، كان يجمع كل صراعات جيوسياسية بمسميات أخرى: خلافة عباسية انهارت وبعدها الدولة الفاطمية، مماليك جاءوا من قحط آسيا يحكمون باسم الإسلام فى مصر والشام ويرفعون العصيان على الخلافة فيتبعونها شكلا ويستقلون عنها فعليا. آسيا الصغرى (تركيا الحالية) تتعرض لانهيار الإمبراطورية البيزنطية المسيحية لصالح السلاجقة الزاحفين بشغف البداوة وقوة العزيمة وخشونة القتال.
لقد جاء ابن بطوطة ليزور أقاليم فى بلاد سلاجقة الروم (تركيا حاليا) ليشهد لحظة تاريخية من انتشار الإسلام محل المسيحية والصدام بينهما والتجارة المشتركة رغم ذلك بين جنوة الإيطالية والسلاجقة أو بين جنوة الإيطالية والقبيلة الذهبية وريثة المغول.
أما فى الأراضى التى تشغلها دولة الاتحاد الروسى حاليا والتى توصف بأنها دولة «أورو آسيوية»، فقد كانت وقتئذٍ تشغلها دولة المغول العظمى التى تفككت وولدت منها «القبيلة الذهبية» التى صعد إلى سدة الحكم فيها «أوزبك خان» وجعل الإسلام دينا رسميا لدولته الكبيرة.
عند هذه النقطة تحولت سيطرة دولة القبيلة الذهبية على إمارة موسكو وكييف وما حولها لتصبح سيطرة إسلامية على إمارات مسيحية، بعدما كانت سيطرة وثنية لشعوب بربرية وفق التصنيف البيزنطى الإسلامى للهجوم المغولى.
العقائد من خلف الجغرافيا والجيوبوليتيك
ينقلنا هذا إلى النظرية الثالثة التى تفسر المسرح الجغرافى الذى ارتحل إليه ابن بطوطة، أعنى العقائد من خلف الجغرافيا والجيوبوليتيك.
لقد لوحظ فى زمن ابن بطوطة انتقال الإمبراطوريات من الوثنية إلى الإسلام أو المسيحية ثم الصراع بين المسيحية والإسلام فضلا عن الصراع بين الإسلام السنى والإسلام الشيعى.
وإذا كان الصراع بين الأديان مفهوما، والصراع بين المذاهب متوقعا لماذا تحولت الإمبراطوريات الوثنية (مثل أتراك آسيا) إلى الإسلام؟
الإجابة التى توصل إليها عدد من المؤرخين لتلك الفترة هو أن وجود دين واحد للقبائل المتفرقة أمر مهم جدا لتوحيد الحركة وضمان إذعان جميع الرعايا لرب واحد فى السماء ورب واحد على رأس الدولة فى شكل القائد العسكرى أو الإمبراطور.
كما أن اعتناق أتراك آسيا (السلاجقة والمغول وغيرهم) للإسلام كان تفويتا لفرصة اتهام العقيدة فى هذه النظم بأنها عقيدة «كفار» أو «وثنيين» وأن لديهم أيضا عقيدة سماوية راقية يمثلها الإسلام.
وبالمثل كان اختيار الروس فى إمارة كييف ومن بعدها فى إمارة موسكو للعقيدة المسيحية بدلا من الوثنية كى لا يكون الروس أدنى من بيزنطة بل ويرثوا مجدها، علاوة على رغبة القائد الروسى فى أعلى الهرم فى أنى يذعن جميع الرعايا الروس لرب واحد فى المسيحية بدلا من عبادة أوثان بالعشرات أو المئات، حين تزعم كل قبيلة أن معبودها الوثنى أعظم من معبود القبيلة السلافية الأخرى.
كانت هذه مشاهد مهمة جدا فى الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك قبل أن ينطلق ابن بطوطة فى رحلته حول العالم ويمر ببلاد القرم والقبيلة الذهبية وتخوم سيبيريا.