«الرسولة» من أرض الخوف - محمد موسى - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 5:18 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«الرسولة» من أرض الخوف

نشر فى : الثلاثاء 15 نوفمبر 2016 - 9:35 م | آخر تحديث : الثلاثاء 15 نوفمبر 2016 - 9:35 م

فى سنة بعيدة تومض بلا توقف فى الذاكرة، أضاء صوتها الغرفة مثل نصل من نور حاسم، وتراتيل، وصلاة سرمدية تسرى من عصور الكهف إلى المدن الحديثة.


بيتى أنا بيتك، وما إلى حدا
من كتر ما ناديتك وسع المدى
ارتعدت من قوة الصوت وعذابه وصدقه. لم تكن تغنى، كانت تبتهل فى فضاء بلا سماوات، ويهدر صوتها مخيفا مجللا بالألم.
كنا فى مدينة الطلبة، بغرفة حسنى حسن، صديق الصبا والأسئلة الذى أفتقده كثيرا. وفى ليلة كنت أهتز فيها بسؤال مراهق عن مغزى الحياة، ضغط حسنى زر الكاسيت الصغير، وصمتنا.
نطرتك ع بابى وع كل الابواب
رسمت لك عذابى ع شمس الغياب
بدأ صوت السيدة يتهدج متوسلا من قاع الوحدة واليأس، إلى نور الأنوار، شمس المساكين، روح الروح.


عرفت فيروز بعد أن قطعت مشوارا طويلا مع كل أنواع الغناء العربى، عبر الراديو الذى لا يصمت فى بيتنا الريفى طوال اليوم، لكنها كانت حدثا كونيا هز كيانى فى أولى سنوات القاهرة. ولم تكن فقط صوت الحب وجارة القمر، بل زعيمة الإبداع فى ورشة الرحبانى، التى حفلت بكل أنواع التجارب الموسيقية. انساب صوتها فى سكون مدينة الطلبة، وانتفضت معها الروح:


عدلك فاض على، كرمك ضوانى
اذا كلن نسيونى وحدك ما بتنسانى
فى الإبداع الموسيقى قدمت «الست» مواويل وألحانا قريبة من المدرسة التقليدية والمصرية بالذات، «وقف يا أسمر». شطحات للبيانو على إيقاعات لاتينية جديدة، «يابا لالا». تهاويل بدوية مخيفة اللحن والكلمات، «نحن ودياب الغابات». الجاز العربى المتنكر فى صورة شرقية، «مشق الزعرورة». ثم درة العصر الرحبانى، هذه المسرحيات التى زرعت فى الأفئدة عقيدة الحب والإنسانية والعدالة.
«اللى بيندفع حقه ناس، صار هو أغلى من الناس؟». سؤال بصوت فيروز تصعب الإجابة عليه، حتى من جانب المناضلين عن الحرية والإنسانية، عبر سقوط ضحايا فى أغلب الأحيان.
الحب الرحبانى ليس يسوعيا يبارك اللاعنين ويحب الأعداء، لكنه مسار إجبارى لوقف تدهور الإنسانية فى اتجاه التخريب والعذاب والعار.
بلدى صارت منفى
طرقاتى غطاها الشوك
والأعشاب البرية


هنا لا يوجد قلب بشرى يتحمل طاقة الإنسانية المرهفة فى صوتها، وفى كلمات الرحبانية المفعمة بأمل حزين. فكيف وصل الغناء الذى نعرفه إلى هذه الذروة على يد فيروز ورفاقها الرحابنة، وكيف ضل سواها هذا الطريق، وبدون استثناء؟
غنت أشواق المراهقة العذراء، «حاكيته وحاكانى عادرب مدرستى»، وأسئلة الفلسفة الصعبة، «وين بدو الطير يهرب من وسع السما؟»، والسخرية من دولة الطغيان: مين اللى بتراقبه ومن عم بيراقبك، ومين ركب ها التركيبة؟
كنا شبابا مارقا بالمعنى السياسى، متسائلين فى رواق الدين، غاضبين من قيود المجتمع، لكن أرواحنا لم تمس بعد هذه النغمة المقدسة، ولم تتلمس موضعها من سيمفونية الخالق ذى الجلال.


لا تهملنى لا تنسانى
يا شمس المساكين
من أرض الخوف منندهلك
يا شمس المساكين


لا يضيع مع السنوات انفعالى الأول بأغنية فيروز «صلاة»، تتجدد ويبعثها الله فى منامى ويقظتى، كلما ضاقت الدروب، وتمخضت المواجع عن لا شىء.


فيروز التى سماها أحدهم «الرسولة»، تحتفل بعيد ميلادها هذا الأسبوع، فأتذكر نعمة الله القدير على من عاشوا معى عصر السيدة، ترجمان القلوب والأشواق، ورسولتنا من أرض الخوف إلى الأمل الذى لا ينسانا.

محمد موسى  صحفي مصري