«شىء من الخوف».. عبقرية بليغ - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 11 مايو 2024 8:09 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«شىء من الخوف».. عبقرية بليغ

نشر فى : السبت 16 سبتمبر 2023 - 9:10 م | آخر تحديث : السبت 16 سبتمبر 2023 - 9:10 م
يتجدد فى ذكرى بليغ حمدى الحديث عن إسهاماته العظمى فى الموسيقى والغناء والمسرح والسينما، ولكنى سأكتفى هنا بقراءة سريعة لعمله الأشهر فى إعداد موسيقى وأغنيات فيلم «شىء من الخوف».
وجد بليغ فى هذا الفيلم ما يبحث عنه من مساحة للتجريب والإضافة، ولإشباع أحلامه بأن يصنع غناء وموسيقى من خلال الدراما، وبصورةٍ ناضجة تجعل من تجميع الأجزاء المغناة فى الفيلم، أشبه بسيرة شعبية مصرية مصغرة، لها بداية ووسط ونهاية، يمكن أن نطلق عليها سيرة «عتريس وفؤادة»، ولكنها سيرة يشارك الكورس فى بطولتها.
حقق بليغ من خلال الكورال كل التأثيرات الممكنة، مستغلًا إمكانيات أصواتهم، فى طبقاتها العليا والدنيا، نساء ورجالا وأطفالا، نعم أطفالا، فكثيرون لم ينتبهوا إلى أغنيتين بديعتين يؤديهما كورال الأطفال فى الفيلم هما: «يا ابو اللبايش يا قصب/ عندينا فرح واتنصب»، وأغنية ظريفة عن البقرة، يزف بها الأطفال رشدى (أحمد توفيق) بعد جنونه.
الفيلم يمثّل أهمية بالغة فى دراسة دور الأغنية فى الفيلم المصرى، ولا غنى عنه فى دراسة تأثر بليغ بالغناء الصعيدى، ليس لأن بليغ كما هو معروف من أصول صعيدية، ولكن لأنه كان يرى فى هذا الغناء مصدرًا دالاً على الهوية المصرية، وأصلًا من أصولها، كما أنه غناء يمتاز بقوة درامية هائلة، استمدها من شعر السير والملاحم، و«شىء من الخوف» كفيلم هو فى جوهره سيرة شعبية نموذجية، بطلتها امرأة اسمها فؤادة، يصح أن تعتبرها «ذات الهمّة الصعيدية»، ومعها بطل أساسى آخر هو «شعب الدهاشنة»، الذى يتحمل ويصبر، ثم يثور فى النهاية.
إدراك الأبنودى كاتبًا للأشعار، وبليغ ملحنًا وواضعًا للموسيقى التصويرية، بأنهما يصنعان سيرة شعبية، له شواهد كثيرة، أوضحها عندما يقدم بليغ أجزاء مثل «كبر وشبّ الولد» بأسلوب شاعر الربابة، وعلى نغمات ممتلئة بالحياة والقوة، تستوحى طريقة وصف الصراع والمعارك فى سيرة «أبو زيد الهلالى».
ولكن سيرة «عتريس وفؤادةى، بكل تحولاتها الدرامية، يؤديها صوت جماعى وقوى وصاخب، يذكرنا بالكورس الإغريقى، الذى يقدم الشخوص ويسرد ويحكى ويصف ويكثف الزمن، ثم يطلق أحكامه مستلهمًا العبرة مما يُعرض.
إنه الراوى العليم والحكيم، ولكنه يكتسب فى تجربة بليغ والأبنودى دلالة تتجاوز هذه الوظائف: الكورس هنا هو الشعب، شاهد الحكاية والمأساة، يبدو فى أول الملحمة خارج الأحداث، يحكيها لنا ببساطة، ويجعل منها فنًّا وأمثولة، ولكن فى مشهد المظاهرة الأخيرة، يردد أهل الدهاشنة عبارتهم الشهيرة: «جواز عتريس من فؤادة باطل»، فنسمع صوت كورال بليغ وهو يهتف بأعلى طبقة: «بااااااااطل». هذا هو «الشعب الراوى»، وقد انضم أخيرًا إلى «الشعب الثائر»، لم يعد متفرجًا وساردًا، ولكنه أصبح مشاركًا ومتورطًا.
ومثلما يقدم شاعر السيرة موضوعه، فإن عناوين «شىء من الخوف» تضعنا مباشرة فى داخل السيرة، آهات الكورال المبتورة المترقبة: (هه هه.. هه هه هه) تبدو أقرب إلى مؤثر صوتى منها إلى كونها آهة، وعبارة «يملى الدنيا خوووف» المرتعشة، تنذر بسيرة مرعبة واستثنائية.
مقدمة فخيمة هائلة التأثير، تقول لك منذ العناوين إن هذه حكاية ليست كالحكايات، فانتبهوا، الكلمات تقدم القرية، فتجردها وتجعلها مستقلة عن مكان محدد، أو زمان بعينه، مجرد قرية صعيدية ما، لأن معنى الحكاية عابر للمكان والزمان، وتلخص المقدمة الخطر فى هذا الظل الذى يتمدد على كل شىء، ويملأ الدنيا خوفًا، ثم يقدم الكورال بعد ذلك شخصية عتريس الجد، وعتريس الابن، وفؤادة العظيمة، ويتدخل تعليقًا ووصفًا فى اللحظات الدرامية الكبرى.
ووفقًا لحسين كمال، مخرج الفيلم، فقد كان يصف لبليغ اللقطة والمشهد والقطعات، ثم يضع بليغ الموسيقى على هذا الوصف. لذلك التقط بدقة معنى النص كله، وشكل السيرة، والتقط ما هو أهم: الحكاية لها مستوى واقعى، ولكن مستواها الأهم شاعرى ورمزى، ويجب أن توهم الموسيقى والأغانى بالطابع الصعيدى، ولكن عليها أيضًا أن تمتلك لمسة أعمق، توازى هذا التجهيل للزمان والمكان، وتوازى تحويل عتريس إلى ظل مخيف.
الحقيقة أن شكل السيرة التى يحكيها الكورال، قطع نصف الشوط إلى تحقيق ذلك، لأن السير ليست حكايات عادية، ولأنها الشكل الذى يبلور عظمة الإنسان فردًا وجماعة، وينقله إلى مستوى الأسطورة. ولكن الموسيقى لا تكتفى بذلك، إنها تعمل فى اتجاهين: إتجاه شاعرى رقيق خاص بحكاية حب حزينة هى قصة فؤادة وعتريس، واتجاه قوى وعنيف وخشن، يجسد الخوف والصراع والموت.
على مستوى استخدام الآلات، من الطبيعى أن يستخدم بليغ آلات البيئة الصعيدية المعروفة، كالطبلة الصعيدية (ليست الدربكة، وإنما هى طبلة كبيرة يُعزف عليها بعصا صغيرة)، وهناك أيضًا المزمار الصعيدى الشهير، كما استخدم الكمنجات لتعطى تأثير الربابة، ولكن بليغ لم يتردد فى أن يستخدم مع هذه الآلات، التى تمنحنا طابع المستوى الواقعى، آلات غربية تمامًا مثل الساكس والبيانو، وهو أمر يستحق التأمل والتوقف عنده: الساكس نسمعه مثلًا فى مشهد فرحة فتح الهويس، ونسمع البيانو بوضوح فى مقدمة مقطع «الضرع جف» قبل فتح الهويس.
كان بليغ دومًا مفتونًا بتجريب استخدام آلات كثيرة سواء فى مقدماته أو لازماته الموسيقية، أو فى مقطوعاته الموسيقية الخالصة، لدرجة أن الناقد الكبير الراحل كمال النجمى، وصف موسيقى أغنية «موعود» بأنها «ورشة موسيقى»، خصوصًا مع استخدامات بليغ المتنوعة للإيقاعات.
وصل بليغ إلى درجة استخدام الكمنجات لإعطاء صوت الربابة فى أغنية أم كلثوم «فات المعاد»، واستخدام الجيتار الكهربائى، لإعطاء صوت المزمار الصعيدى، فى أغنية «زى الهوا».
بهذه الجرأة فى التجريب، صارت الأغنيات والموسيقى، جزءًا عضويًّا لا يمكن أن نتصور الفيلم بدونه: تعطى جو الصعيد، وتمنح الحكاية أيضًا طابعها العابر للأماكن والأزمنة. أصبحت أغانى الفيلم، بعبقرية بليغ والأبنودى، هى الفيلم نفسه.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات