وأنا أيضًا أحبّ أشيائي - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 25 أبريل 2025 8:16 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

وأنا أيضًا أحبّ أشيائي

نشر فى : الخميس 17 أبريل 2025 - 6:30 م | آخر تحديث : الخميس 17 أبريل 2025 - 6:30 م

في طريق عودتها من الكلية بعد إلقاء محاضرتها المسائية، أخذَت صديقتي تهيئ نفسها لنومٍ هادئ بعد يوم العمل الطويل. قامت بتشغيل الموسيقى الهادئة كأنها تمسح بالكوريكتور ضوضاء الطريق ومشاغبات الطلّاب ونميمة زملائها في المكتب. احترسَت من السقوط نائمة على مقود السيارة فتأكّدت من أنها ربطَت حزام الأمان وتحوّلت إلى أغنية ألف ليلة وليلة لتنتبه. أنزَلَت زجاج السيارة بما لا يتجاوز بضعة سنتيمترات لينفذ إليها قليلُ من الهواء المنعش، وآه من هواء الليل وآخره. ولأنها لا تحبّ تضييع الوقت، راحت تتخفّف من حليّها، فبدأَت بالكولييه الفضّة ثم خلعَت القُرط، وشعرَت بأنها تحرّرَت. تناولَت ساندوتش البرجر الذي كانت قد نسته في حقيبة كتبها منذ الظهيرة والتهمته بشهيّة، ولم يكن طازجًا. ممممم.. الطريق أمامها مظلم وأعمدة النور مطفأة بما لا يسمح لها بأن ترى بوضوح مظاهر إرهاقها في المرآة، عمومًا ليست في حاجة إلى ما يُثبت، فهي تقضي كل ثلاثاء حوالي ثلاث ساعات واقفة على قدميها لتحاضر أمام طلّاب الدراسات العليا. هذا وقت طويل جدًا وممّل جدًا جدًا، وحتى يحتفظ المدرّس الشاطر بانتباه الطلّاب لابد أن يكون كالساحر الذي يُخرج من جرابه بين الفقرة والأخرى ما يثير الفضول. وهي شاطرة وشطارتها هي رأس مالها وسُمعتها ومصدر أكل عيشها، ولذلك فإنها تتقمّص أثناء محاضراتها الليلية دور الساحر. ولو تطّلب منها الأمر حتى أن تتقمّص دور القرد فإنها لن تتردّد، فالمهم والمهم فقط هو أن تحتفظ بعيون طلّابها مفتوحة حتى لا تهتَز ثقتها في شطارتها، وأيضًا كي لا يغلبها النعاس. تن تن تن تررن تن تن.. راحت تدندن مع لحن بليغ.
• • •
هل الطريق اليوم أطول من اللازم؟ بالتأكيد لا فلم يتغيّر شئ في مسارها الأسبوعي المعتاد، فقط إحساسها بالطريق اليوم أقوى من أي ثلاثاء، وبعد ما يقرب من الساعة رأت الضوء الأخضر الذي كان يعاندها. وضعَت قدميها المتعبتين في حذائها الفلات، وأوقفّت محرّك السيارة، نزلَت بينما المساحة التي يحتلها فراشها آخذة في التمّدد داخل عقلها حتى طرد منه تقريبًا كل الأفكار. استعدّت لتمارس طقوسها المعتادة التي تسبق تناولها الأرز مع الملائكة: دُش سريع، ثم الصلاة، ثم كوب الينسون الدافئ، ثم تشّد من فوقها الغطاء. لكن الظاهر أن هذا الثلاثاء مختلف. أمسكَت بمقبض غرفتها التي اعتادت أن تغلقها قبل خروجها لسبب لا تعرفه ولا مبرّر له لأنها تعيش وحدها في البيت. عمومًا لا هذا هو وقت التفلسّف ولا نحن في حاجة لتبرير تصرفاتنا الغريبة، لأنها غريبة فقط على مَن لم يألفها. خرج مقبض الغرفة في يدها رغم أنها أقسمَت لاحقًا لصديقاتها أنها لم تستخدم معه العنف.. أصلًا ليس فيها حِيل. بدا الباب المغلق في وجهها كأنه سّد منيع يحول بينها وبين أشيائها الموجودة في الداخل فتوتَرت، وتأخّر الوقت فلا مجال لاستدعاء أحد ينقذها من هذا الموقف السخيف.
• • •
وقفَت كصنم أمام باب الغرفة لثوانٍ قبل أن تستوعب الموقف، عليها أن تقضي هذه الليلة في الغرفة الأخرى. موقف بسيط جدًا لكنه سخيف جدًا. نعم لديها غرفة ثانية وحمّام ثان لكنهما لا يخصّانها بل يخصّان الضيوف من الأقارب وغير الأقارب إن قرّروا المبيت عندها. ما باليد حيلة، باتت ليلتها بملابسها على فراش غير فراشها وآه من نوم الواحد على فراشٍ لا يخصّه. وضعَت حليّها وسلسلة مفاتيحها وحقيبة كتبها في أماكن غير تلك التي اعتادت عليها. حتى نور هذه الغرفة الثانية لا يلائمها، ففي غرفتها نور خافت أقل مما يلزم للانتباه وأكثر مما يلزم للنعاس. ثم أنها بطبيعتها لا تطيق وجود جهاز تلڤزيون في الغرفة، فمفهومها لغرفة النوم هو أنها مكان مخصّص للنوم فقط ولا شئ غير النوم، لكن كذلك ليس من المعقول أن تحمل التلڤزيون إلى البهو مثلًا، قلنا قبل ذلك إنه ليس فيها حِيييييل. لم تُعّد شراب الينسون الدافئ كالعادة فلم تكن لها نِفس، وقالت إنها ليلة تقضيها والسلام، أو كما كانت تقول أمها "ربنا يقصّر الليلة بالعافية" عندما يكون الليل ثقيلًا وطويلًا عليها لسببٍ أو لآخر. قالت هي الأخرى "ربنا يقصّر ليلتي بالعافية". وجهّت نظرها صوب الحائط، وأعطت ظهرها لكل الأشياء الغريبة.. ونامت.
• • •
هذه الواقعة البسيطة نبّهت صديقتي إلى كم هي ترتبط بأشيائها، ونبهّتني إلى كم أنني أشبهها في ارتباطي بأشيائي ربما بشكلٍ يوشك أن يكون مَرَضيًا. المج الذي أتناول فيه الشاي باللبن كل صباح- يزعجني جدًا لو لم أجده في مكانه فأضطر إلى ألا أشرب فيه، وكأن ما يملأه ليس مشروبي اليومي المعتاد. ملاءاتي ذات الألوان الفاقعة المبهجة لا أتصوّر أن توضع على فراش الغرفة الأخرى حتى ولو من باب السهو فبيني وبين هذه الألوان علاقة خاصة، وكأنه لا يأتيني النوم إلا وهي تحاوطني من كل اتجاه. منشفتي.. مشجبي.. الساعة الضوئية التي تؤنسني وتطمئنني في الليل.. الراديو القديم الذي يستهلك بطاريات أكثر من المعتاد لكنني أدمن أغانيه ولا أستريح لغير موسيقاه.. براويز الصور لأبي وأمي وأولادي وأحفادي والتي أكاد أجّن وأتشاءم لو تغيّر وضعها بما يخّل بالتسلسل المنطقي لأجيال الأسرة.. علبة الأقلام مختلفة الأشكال والأنواع ونوتة صغيرة ضروري إلى جوارها.. الخزعبلات التي لا معنى لها إلا عندي والمكوّمة في صندوق خشبي من أول تذكرة سينما قديمة وحتى صور البطاقة اللعينة مرورًا بأزرار احتياطي لچاكتات لم يعد لها وجود في دولابي. هذه الأشياء الحميمة هي أنا، ومن مجموعها تتشكّل شخصيتي، وأشعر معها بالألفة الشديدة ففي البعد عنها غُربة ولو كنتُ في نفس البيت.
• • •
نبهّتني حكاية صديقتي مع باب غرفتها إلى أنني مثلها أحبّ أشيائي، فإن قِسنا الحكاية على حكايات ملايين البشر الذين تضطرهم ظروفهم بالغة القسوة إلى أن ينزحوا كل حين من مكان لمكان تاركين وراءهم كل أشيائهم.. كلها بالمعنى الحرفي للكلمة وبدون استثناء ليعيشوا بما هو متاح ويكملوا بالحدّ الأدنى من المَتاع- أقول إن قِسنا هذه الحكاية على حكايات هؤلاء البشر سيبدو لنا كم نحن مرفّهون ومدللّون وربما حتى متبطّرون بما نتمرّغ فيه من النِعَم، فلدينا بدلًا من الغرفة غرفتان ولدينا أكثر من فراش ولدينا احتياطي من الملابس والكماليات. نعم هذا صحيح، لكن لو نظرنا إلى هذه الأشياء كأجزاء من ذواتنا، ننقص في غيابها ونعود إليها بشوق، لا نرتاح إلا معها ونحبها وكأن لها قلب وروح- أقول لو نظرنا إلى الأشياء على هذا النحو لربما قيل عنّا أننا أوفياء نحفظ العِشرة الطيبة ونصون صُحبة جمادٍ ربما يكون أخلص من بعض أنواع البشر. يا صديقتي العزيزة لستِ وحدك التي شعرتِ بالاضطراب وأنتِ خارج منطقتك الآمنة وبعيدة عن زِمام أشيائك الحميمة.. فأنا أتفهّم جدًا مشاعرك وأتعاطف معها تمامًا.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات