ما وراء المناظرة - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 2:46 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ما وراء المناظرة

نشر فى : الخميس 17 مايو 2012 - 8:25 ص | آخر تحديث : الخميس 17 مايو 2012 - 8:25 ص

فى العاشر من مايو الجارى تحلق ملايين ــ وربما عشرات الملايين ــ من المصريين حول تليفزيوناتهم كى يتابعوا أول حدث من نوعه فى التاريخ المصرى، وهو المناظرة «الرئاسية» بين عمرو موسى وعبدالمنعم أبوالفتوح، ومن هنا استحقت المناظرة بحق وصف «التاريخية» الذى يطلق كثيرا بسهولة فائقة على أحداث تافهة. والواقع أن هذا المشهد ينبغى التوقف عنده طويلا، لأنه من أروع إنجازات ثورة يناير التى أعادت «الوعى السياسى» للشعب المصرى الذى غُيِبَ عن الاهتمام بشئون وطنه طويلا.مما يؤكد هذا الإنجاز أنه يذكرنا بالمشهد ذاته يوم الاستفتاء على التعديلات الدستورية فى مارس2011، أو يومى انتخابات مجلس الشعب فى نوفمبر الماضى على الرغم من التحديات الأمنية التى توقع البعض معها ألا يخرج المصريون من بيوتهم، لكن عودة «الوعى السياسى» أخرجتهم جميعا كى يشاركوا بحرية فى انتخابات نزيهة تساهم نتائجها فى رسم صورة مصر المستقبل. ومن الطريف على الصعيد الشخصى أن المرء أحس للمرة الأولى بأنه متخصص فى أمر له معنى، بعد أن كانت دراسة السياسة والعلم بها أمرا غامضا وربما يستحق السخرية بالنسبة لعوام الناس، ولن أنسى ما حييت ذلك الجندى الذى كان ينجز لى معاملة فى إدارة التجنيد، وسألنى عن تخصصى فى الدكتوراه، فقلت له تبسيطا «سياسة»، فرد بقوله: «يعنى مالكش فى الودان. أصل أنا ودانى بتوجعنى أوى وماصدقت عترت فى دكتور». أما بعد الثورة فقد كان بسطاء الناس يقصدوننى وغيرى طلبا لشرح أمر ما غمض عليهم، أو لمساعدة فى اتخاذ القرار السليم بشأن الاستفتاء أو الانتخابات.

 

●●●

 

عاب المناظرة تأخر بدئها عن موعده المحدد، وأمدها الزمنى الطويل الذى امتدت معه حتى قرابة الثانية صباحا، ويرجع هذا إلى كم الإعلانات الهائل الذى سبق المناظرة وتخللها، وهو ما يدق جرس الإنذار للمرة الألف تحسبا لسطوة المال فى شتى صوره وأشكاله على الإعلام بدءا من ملكية المؤسسات الإعلامية وانتهاء بالخضوع لحصيلة الإعلانات. تماما كما فى التعليم الخاص الذى لا يعنيه أساسا إلا الربح المغالى فيه. كذلك يمكن اعتبار اختيار المشاركين فيها يمثل وجه انتقاد آخر للمناظرة. صحيح أننى أتفق مع كون عمرو موسى وعبدالمنعم أبوالفتوح هما أوفر المرشحين حظا فى دخول معركة الإعادة ثم الفوز، لكن من حق المرشحين الآخرين أن يعتبروا هذا تحيزا إعلاميا فاضحا مبنيا على غير أساس. كذلك اعتبر بعض المصريين أو حتى كثير منهم أن النقد الشخصى المتبادل فى المناظرة من عيوبها الواضحة، على أساس أن هذا النقد وصل فى رأيهم إلى حد «التجريح الشخصى»، وهو ما يعكس عدم دراية من المنتقدين بطبيعة المناظرات من هذا النوع، وربما لم يشاهدوا من قبل مناظرة محتدمة لانتخابات رئاسية أمريكية تثبت لهم أن ما أسموه «بالتجريح الشخصى» فى هذا الصدد هو قطرة فى بحر الممارسات المشابهة.

 

وإذا انتقلنا إلى مضمون المناظرة وما وراءه نجد أن عمرو موسى قد بدا فى سمت «رجل الدولة»، ومن آيات هذا على سبيل المثال أنه لم يستدرج للقول بأن إسرائيل عدو استراتيجى، وقال بالمقابل إن معظم الشعب المصرى يعتبرها كذلك، وأنه من الضرورى إعادة النظر فى العلاقة معها، بينما قال أبوالفتوح إن إسرائيل بالتأكيد عدو، وعلى البرلمان إعادة النظر فى المعاهدة معها كل خمس سنوات وفقا لبنود المعاهدة ذاتها، وربما لا يدرى أن تعديل المعاهدة مستحيل دون موافقة إسرائيل، وكان عمرو موسى بمنطق المرشح الراغب فى الفوز يستطيع أن يدغدغ مشاعر الرأى العام بالقول الفورى بأن إسرائيل عدو استراتيجى، لكنه غلَّب هنا اعتبارات «رجل الدولة» على اعتبارات «السياسى الثورى»، والغريب فى مجال السياسة الخارجية أن جاءت إجابة عمرو موسى على احتمالات توجيه ضربة لإيران تقول صراحة إنه ضد الحرب معها بينما تمثل رد أبوالفتوح فى القول بأننا لا نخشى إيران، ولكننا لا نسمح لها بنشر المذهب الشيعى، وهنا بدت مرجعيته الدينية غالبة على شخصيته كسياسى.

 

حرص أبو الفتوح بالمقابل على أن يقدم نفسه باعتباره «رجل الثورة»، ولذلك حاول كل منهما ــ ربما باللاوعى ــ أن يهدم الأساس الذى استند إليه الآخر، فركز أبوالفتوح على أن «رجل الدولة» المتمثل فى عمرو موسى كان ضمن نظام فاسد سكت عليه، فكيف يكون قادرا على حل مشكلات شارك فى صنعها؟ بينما دافع موسى عن نفسه بأنه ترك النظام منذ عشر سنوات، وأنه عندما كان جزءا منه أدار سياسة خارجية كان الشعب المصرى يريدها، وعارض معارضة حقيقية من أجل الوطن، فيما كانت معارضة أبوالفتوح من أجل جماعة (يقصد جماعة الإخوان المسلمين)، والغريب أن أبوالفتوح لم يرد على هذا الاتهام، ولا يدرى المرء هل حدث ذلك لأنه لو قال إن الجماعة ككل كانت تعارض من أجل الوطن لكان هذا دفاعا عنها بكل تأكيد، وهو ما ينكأ جرحه من الجماعة فى وقت حساس بالنسبة للحملة الانتخابية، كما أنه عندما اتهم عمرو موسى بتدهور علاقات مصر العربية والأفريقية عندما كان وزيرا للخارجية جاء اتهامه شديد العمومية دون أدنى مؤشرات تفصيلية، ولذلك سهل على عمرو موسى أن يرد عليه بالعمومية نفسها.

 

وكما حرص أبوالفتوح على أن يهدم أساس «رجل الدولة» لدى عمرو موسى فإن الأخير فعل الشىء نفسه عندما بدأ يحاول تقويض الأساس الثورى الذى يستند إليه أبوالفتوح، وقد سبقت الإشارة إلى قول موسى بأن معارضته كانت لصالح الوطن ككل على العكس من حالة أبوالفتوح، وبالإضافة إلى هذا اتهم موسى أبوالفتوح فى سلوكه إبان ثورة يناير وبعدها (متى التحقت بالثورة؟)، وأنه تصرف عكس إرادة الثوار الحقيقيين فصوت بالإيجاب على التعديلات الدستورية، كما استشهد بعبارات منسوبة إلى أبوالفتوح فى سؤاله عن موقفه من العنف، وعن تذبذب أقواله وأفعاله كما فى رفضه الأحزاب الدينية وقبوله بعد ذلك تأييد بعضها (وهذا هو منطق السياسة على كل حال)، أو تناقض أقواله بين موافقته فى أحد البرامج التليفزيونية الشهيرة على أنه من حق المسلم أن يعتنق المسيحية والمسيحى أن يؤمن بالإسلام، لكنه مؤخرا تحدث عن استتابة المرتد إلى آخر عمره، وقد أخفق أبوالفتوح فى أن يقدم إجابة مقنعة فى هذا الصدد، وموقفه الأخير من مظاهرات العباسية التى شارك فيها حينا ثم قال إنها غير مناسبة حينا آخر، واضطر أبوالفتوح إلى أن يرد بالمبالغة فى وصف ثورية المظاهرات وسلميتها وبشاعة ما حدث تجاه المشاركين فيها وبالذات من النساء والفتيات، وهذا هو للمرة الثانية الفارق بين «رجل الدولة» و«السياسى الثورى»، ويلاحظ أن أبوالفتوح لم يكن دقيقا بصفة عامة فى رده على مسألة انتهاج العنف وإباحة الانتقال من دين إلى دين، وبدا أن ذاكرته قد خانته أو خانه جزء منها فى تذكر ما قال، والخلاصة أنه بينما حرص أبوالفتوح على أن يهدم أساس «رجل الدولة» عند عمرو موسى بالإصرار على تكييفه ضمن النظام السابق حرص عمرو موسى على أن يركز على المرجعية الدينية لأبوالفتوح متمثلة فى «جماعة الإخوان المسلمين»، وتناقض سلوكه مع سلوك الثوار الحقيقيين.

 

●●●

 

يستطيع المرء أن يعطى المناظرة ــ كمناظرة ــ درجة من عشرة، وأن يفعل الأمر نفسه بالنسبة لكلٍ من المشاركين فيها، لكننى أزعم أن قياس تأثيرها على الانتخابات الرئاسية ونتائجها من رابع المستحيلات، ذلك لأن خريطة انتخابات الرئاسة شديدة التعقيد من حيث انتماءات بعض المرشحين فيها إلى التيار نفسه، مما يؤدى إلى تشرذم الأصوات داخل التيار الواحد، وهو تشرذم لا ندرى شيئا عن مداه خاصة وأنه لا توجد سابق خبرة متراكمة عن سلوك الشعب المصرى فى هذا الصدد، فهو مواجه الآن بموقف لم يسبق له أن واجهه عبر التاريخ الممتد لآلاف السنين لمصر وشعبها، وانطباعى الخاص أن الجمهور الذى شاهد المناظرة ولديه انحياز مسبق لأحد طرفيها لم يتأثر موقفه بها، وربما حدث ذلك بالنسبة لمن لم يستقر اختياره بعد على أحد المرشحين، وإن الأمر هنا يشبه مشجع الكرة الذى لا يتخلى عن ناديه إذا انهزم، لكن الأخطر أن التركيز الشديد لعمرو موسى على انتماء أبوالفتوح السابق للإخوان سوف يعنى أن مصر سوف تشهد صراعا ــ فى حالة فوز موسى ــ بين رئيس الجمهورية والبرلمان وربما الحكومة أيضا إذا نجح التيار الإسلامى فى أن يجعلها تتشكل من الأغلبية البرلمانية، ومن يدرى فقد تحرص «الجماعة» على أن تقلص سلطات رئيس الجمهورية فى الدستور الجديد إلى أدنى حد حتى تتفرغ لتأسيس وضعها فى بنية الدولة المصرية لمدة خمس سنوات دون منافس، ولذلك فإن القصة لم تتم فصولا، بل لعلنا ما زلنا نقرأ صفحاتها الأولى.

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية