قمت مؤخرا برحلة استكشافية إلى عزبة الوالدة، فى حلوان بجنوب القاهرة، على الضفة الشرقية للنيل. لا يزيد عمر عزبة الوالدة عن 150 سنة، وتشير البيانات التاريخية المتاحة إلى أن الخديوى إسماعيل بناها لوالدته، والتى كان يقال لها تبجيلا «الوالدة باشا»
على خريطة عام 1907 نعثر على موقع «سراى الوالدة» ويقصد بالسراى القصر المشيد لوالدة الخديوى إسماعيل.
انطلقت فى رحلتى الطريق إلى عزبة الوالدة من البر الغربى للنيل، حيث أهرامات دهشور، ورأيت فى الأفق منطقة سقارة. يعرف هذا الطريق باسم «الدائرى الأوسطى» وهدفه الوصول إلى العاصمة الإدارية الجديدة، وفى هبوطه من دهشور فى البر الغربى إلى النيل والبر الشرقى اخترق الطريق عاصمة مصر القديمة «منف» فى ميت رهينة، ثم تجاوزنا البدرشين وعبرنا البر الشرقى إلى الموقع الذى أقيمت عليه «عزبة الوالدة».
فى عزبة الوالدة عمران مكدس متلاصق كثيف. الشارع الرئيس فيه هو «ترعة الخشاب». تم ردم الترعة ــ بعد تبوير الأرض الزراعية ــ وتحولت إلى طريق مكدس، لم يعد هناك ترعة فى عزبة الوالدة بل عمارات متلاصقة وخدمات ضعيفة.
بعد تجوال لساعتين أو ثلاثة طرح السؤال نفسه حول مفهوم جغرافى وتاريخى عريق يسمى «الاستمرارية والانقطاع».
تقوم الفكرة على أن تاريخ وجغرافية كل أمة فيها معالم من الاستمرارية فى العمران والاقتصاد والمظاهر الإنسانية والاجتماعية، وفيها بالمثل مظاهر انقطاع يصعب معها التعرف على صورة الماضى. هنا فى عزبة الوالدة وجدت أن البطل هو الانقطاع وأن الاستمرارية تطلق أنفاسها الأخيرة.. أو تكاد!
ختمت الزيارة بمشهد من مصر الملكية فى الموقع المسمى «ركن فاروق» وهو قصر جميل يحمل اسم الملك فاروق. عند باب الدخول استقبلتنا روائح زكية من شجرات المانجو التى تملأ المكان.
مررت بالغرفات الملكية ووقفت طويلا أمام اللوحات والرموز التى جمعها القصر تعبيرا عن اهتمام الملك فاروق بالتاريخ المصرى القديم، رموز رب الحكمة «تحوت» ورموز أخرى لأرباب العلم والمعرفة فى الأقصر، مع بعض لوحات استشراقية من مجتمع ملكى باذخ.
ثم خرجت إلى الشرفات التى تطل على النيل فقابلت نسيما عليلا وريحا طيبة. شعرت أننا هنا فى استمرار يعوض الانقطاع الصارخ فى عزبة الوالدة.
يرتبط مفهوم الانقطاع والاستمرارية بعبارة يتناقلها الناس نقلا عن جمال حمدان يصف فيها العلاقة بين التاريخ والجغرافيا يقول فيها «التاريخ جغرافية متحركة».
ويرى بعض من القراء إبهاما فى تلك العبارة، وهذه سمة التعبيرات المرتبطة بفلسفة الجغرافيا.
فى العقود الأخيرة ذهب فلاسفة علم الجغرافيا فى الغرب إلى طرح مقولة «جغرافيات متعددة لنفس المكان بدلا من جغرافيا واحدة».
تعالوا ننظر إلى حلوان وعزبة الوالدة لنستكشف كيف هو ذلك «التاريخ المتحرك» أو تلك «الجغرافيات المتعددة».
إذا قمت اليوم بزيارة عزبة الوالدة فى حلوان فإنك ستذهب إليها عبر كورنيش النيل قادما من المعادى والمعصرة، أو عابرا إليها من الطريق الدائرى قادما من الهرم ودهشور و6 أكتوبر والبر الغربى. ولابد أنك قبل أن تقرر الذهاب إليها ستضع اسمها على محرك البحث على الإنترنت لتعرف ما هى عزبة الوالدة هذه؟
الإنترنت يحتفظ بالأخبار المثيرة أكثر منه بالمعلومات الدقيقة، وبالتالى ــ ولسوء الحظ وبكل أسف ــ فإنك ستطالع أخبارا سيئة منفرة مخيفة عن عزبة الوالدة فى حلوان قرينة الحوادث والتأخر والعشوائية والسمعة غير الطيبة.
لكن هذه الصورة هى أحد الأوجه المتعددة التى عرفها المكان. أو قل هى الوجه الأخير فى أحدث خمسين سنة.
لكن قبل عشرات آلاف السنين عاش فى المنطقة إنسان العصر الحجرى، وإذا كان إنسان العصر الحجرى معروف فى مصر من 120 ألف سنة على الأقل فإن الأدوات الحجرية الحديثة التى تركها هنا فى حلوان والمعادى تعود فى أحدث عمر لها إلى تواريخ تقدر ببضع آلاف السنين قبل الميلاد، سابق على وممهد لعصر ما قبل الأسرات.
تشبه هذه المنطقة من الناحية البيئية بقية وادى النيل، حيث كانت الصحراء قبل أكثر من 10 آلاف سنة بيئة عامرة بالحيوان البرى والنبات الطبيعى ولم يكن الإنسان فى حاجة للنزول إلى ضفة النهر أو الاعتماد على المياه النهرية إلا لاحقا. الأودية التى نراها جافة حاليا فى الصحراء الشرقية كانت عامرة بالبيئة الكريمة بالنبات والحيوان المناسب لإنسان العصر الحجرى.
ولأن لدينا طبقات من الجغرافيا (جغرافيات متعددة) فقد جاء عصر الحضارة حين استقر المصريون القدماء فى الوادى واتخذوا من منف عاصمة وعبروا البر الشرقى ليقيموا مقابر وجبانات.
وبينما يرى بعض العلماء أن حلوان فى هذه المنطقة كانت هى الشطر الشرقى لمنف ــ بينما كانت سقارة هى الشطر الغربى.
ستعرف المنطقة جغرافيا جديدة أو وجها جديدا (أو جغرافيا متحركة بتعبير حمدان) حين تنتقل إلى العصور العربية والإسلامية ويكتشفون فيها المناخ الصحى والهروب من أوبئة القاهرة.
كما كانت حلوان فى عصر سلاطين المماليك متنزها ومرتعا لما أسماه عالم الجغرافيا الجليل عبد العال الشامى «السرحات السلطانية» للصيد والسفر والتريض والتدريب.
يزعم المؤرخون أن القاهرة كانت مدينة مزدحمة دوما وأهلها قليلى النظافة ومن ثم كانت تنتشر الأمراض بينهم، وبالتالى هجرها الملوك والأمراء فى بعض أوقات الأوبئة طلبا للنظافة والجمال والهواء الصحى النقى فى حلوان.
وقد ورثت أسرة محمد على سمعة حلوان من العصور الإسلامية والعربية وأضافت عليها أفضل تمثيل لصورة جديدة من الجغرافيا حين اتخذت فيها قصورا ملكية أشهرها «سراى الوالدة» أو قصر والدة الخديوى إسماعيل.
وسينقل الخديوى عباس حلمى الثانى فى نهاية القرن 19 ومطلع القرن العشرين المنطقة نقلة عمرانية بإقامة مصحات ومشاف وفندق سياحى استغلالا لمياهها المعدنية.
فى قلب منطقة الوالدة باشا يوجد مكان يسمى الملأة، والكلمة أصلها «ملقة» على نحو ما أوضح عبد العالى الشامى فى وصف الأرض الطينية المغمورة بمياه الفيضان السنوى.
فى مطلع القرن العشرين تغيرت هوية حلوان من سكن الاستشفاء والمصحات الجلدية والنفسية إلى قطب جذاب لصناعات النسيج ثم إلى بؤرة لتصنيع الحديد والصلب والأسمنت فى العصر الجمهورى.
أما عزبة الوالدة التى كانت أرضا زراعية فسيزحف عليها المهاجرون من الصعيد الراغبين فى فرص عمل فى الصناعة والخدمات وتلتهم مساكنهم الأرض الزراعية ويقيمون عليها السكن غير المخطط (لا يجب أن نلومهم بل يجب أن نلوم الإقطاع والباشوية القديمة والجديدة التى جعلت الفلاحين معدمين بلا رزق ولا مكانة ولا فرص عمل فى الصعيد).
ستزحف جامعة حلوان الحديثة على محيط عزبة الوالدة، لم تلتهم جامعة حلوان الأرض الزراعية بل قامت فى الأرض الصخرية الصحراوية والتى كانت بدورها حاضنة للآثار القديمة منذ عصور ما قبل التاريخ.
المشهد الحديث من الجغرافيات السابقة يعطينا صورة متداخلة ومربكة، فى هذه الصورة لا تتراكب الجغرافيات فى طبقات ناضجة من عمر إلى عمر ومن قديم إلى حديث ومن سىء إلى أفضل، بل تتجاور إلى جوار بعضها البعض فى فوضى غير مخططة مربكة للعقل والعين والوعى.
فى عزبة الوالدة كنموذج لحلوان ولمصر كلها ليس أمامك جغرافيا متحركة بتعبير حمدان ولا جغرافيات متعاقبة بتعبير الجغرافيا الأوروبية بل أمامك ثوب مرقع أو لعبة الألغاز متنافرة الألوان.
إذا استمر الخط على نفس ما هو عليه من مستويات التراجع، فلن نكون أمام «جغرافيا متحركة» بقدر ما سنواجه «جغرافيا متدهورة» غير قابلة للاسترداد.