أىُّ عالمٍ بعد كورونا؟ - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 7:16 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أىُّ عالمٍ بعد كورونا؟

نشر فى : السبت 18 أبريل 2020 - 8:40 م | آخر تحديث : الأحد 19 أبريل 2020 - 12:07 ص

قلما أثارت واقعة ما أثاره فيروس كورونا ومرض كوفيدــ19 من نقاشات عن شكل العالم وتنظيمه فى المستقبل. هذا المقال استكمال لذلك المنشور فى نفس هذه المساحة من «الشروق» منذ أسبوعين وامتداد للمقالات المنشورة هنا عن تبعات كورونا فى الأسابيع الستة الأخيرة.
النقاشات الجارية تتخذ شكلين. الأول هو كتابات المهتمين والتعليقات عليها التى تخلق ما يشبه المنتدى العالمى للنقاش. أما الثانى فهو الندوات على الشبكة العنكبوتية، المسماة بالوبينار باللغة الإنجليزية، وهى ندوات عبر وطنية، المشاركون فيها من بلدان وقارات مختلفة لا يدركون اختلاف مواقعهم، بل يشعرون أنهم جميعا فى مكان واحد هو الشبكة، ويعزز من ذلك الشعور وجودهم جميعا أو أغلبهم فى منازلهم لا يغادرونها إلى شوارع فى مدن وبلدان تختلف فيما بينها. النقاشات تعكس عولمة التفكير وإن كانت نسب المشاركين فيه تكشف عن سيطرة العالم المتقدم حتى على هذا المظهر للعولمة.
الكلام الدائر ليس نهائيا وستنشأ آراء جديدة إن امتدت فترة الوباء العالمى وخاصة إذا ما اتسع نطاق آثاره الصحية والاقتصادية إلى البلدان النامية. البلدان المتقدمة والناشئة سريعة النمو عانت أنظمة الصحة العامة فيها واقتصاداتها فى مواجهة الوباء، فما بالك بالبلدان النامية.
فى النقاشات الدائرة فريق من المتشككين فى قدرة البشر على التعلم، أو من المتشائمين من طبيعة البشر ومن استعداد المستفيدين من النظام السياسى والاقتصادى الدولى الحالى للتعلم من عثرات النظام ولمعالجتها. هم يضربون بالأزمة المالية العالمية لسنة 2008ــ 2009 مثلا، فالقائمون على النظام الدولى عادوا إلى عاداتهم القديمة بعد مداواة أعراضها دون علاج للأسباب العميقة لهشاشة الرأسمالية العالمية التى صارت شبه مطابقة للنظام الاقتصادى الدولى. قد يكون المتشككون والمتشائمون على حق فى تقديراتهم. غير أن اتساع نطاق النقاشات وتنوع المشارب الوطنية والتخصصية للمشاركين فيها يفرضان أن يؤخذ موضوعها بجدية تامة.
***
لأغراض هذا المقال، النقاشات تدور حول آثار الوباء العالمى فى مجالات ثلاثة. الأول هو بنية النظام الدولى عند قمته والمسئولية عن الحفاظ على استقراره وعدالته، والثانى هو عملية الإنتاج والتبادل فى الاقتصاد العالمى أى العولمة فى مظهرها الاقتصادى، والثالث هو القواعد الحاكمة لهذه العملية، أى حوكمة العولمة الاقتصادية، ومعها وبمناسبتها حوكمة النظام السياسى الدولى.
شبه اتفاق منعقد بين المشاركين فى النقاشات، بما فى ذلك بل وربما خصوصا الأمريكيين منهم، على أن عصر هيمنة الولايات المتحدة فى سبيله إلى الزوال. أسباب ذلك تكمن فى إعادة هيكلة الاقتصاد العالمى وصعود الصين وتوسع تأثيرها الاقتصادى والسياسى فى مناطق العالم المختلفة، من جانب، ورداءة السياسات الأمريكية وتخبطها مثلما هى حال مواجهتها للوباء الحالى، وعدم استعداد الولايات المتحدة للاستمرار فى تحمل مسئولية القوة الأعظم، من جانب آخر. المشكلة ليست فى الرئيس الأمريكى الحالى وحده وإنما فى انتشار أفكار فى المجتمع الأمريكى عن أن الولايات المتحدة تدفع فى تسيير النظام الدولى أثمانا لا تتلقى عنها مقابلا. لا يمكن هنا الإمساك عن التعليق بأن الرئيس الأمريكى ومن يذهبون مذهبه يتناسون عن غفلة أو عن عمد الأرباح على الاستثمارات الأمريكية والعوائد التى تحول إلى الولايات المتحدة، وهجرة العقول من بلدان العالم كله إلى جامعاتها ومراكز أبحاثها وشركاتها، والتريليونات من الدولارات التى تتلقاها نظير أذون خزانتها فتمكنها من ضمان مستوى معيشة لأغلبية الأمريكيين ليس ممكنا توفيره بحجم الإنتاج فيها خاصة فى ظل السياسة التوزيعية المختلة فى صالح أقلية لا تصل إلى الواحد فى المائة من السكان فيها. فى مقابل الموقف الأمريكى، تجد الصين وقد استعادت الثقة فى نفسها وأدركت أن انفتاحها على العالم، وهو عكس مقاربتها المنغلقة على نفسها تاريخيا، قد عاد عليها بنفع وتقدم ونفوذ ما كان يمكن أن تفكر فيهم منذ مجرد نصف قرن من الزمان. غير أن الصين مع ذلك، رغم تعاظم مواردها وتسامى موقعها فى الاقتصاد العالمى، لا تستطيع وحدها بعد أن تلعب دور الضامن لتسيير النظام الدولى ولكفاءته ولعدالته. يمكن أن تتعاون القوتان ويرى البعض أن هذا سيكون من مصلحة الولايات المتحدة لأنه سيحقق الرفاهة للشعب الأمريكى الذى تراجع اجتماعيا فى العقود الأخيرة ولكنه يشك فى أن يحدث ذلك لأسباب تتعلق بالأجواء المسمومة فى الولايات المتحدة إزاء الصين فى الوقت الحالى. يجدر التعليق هنا بأن إحجام القوتين العظميين عن التعاون فى تحمل مسئولية النظام الدولى وضمان استقراره له جوانبه الإيجابية فهو يعنى إخلاء مساحة للدول الأخرى بما فيها الدول النامية لتلعب أدوارا إيجابية فى تسيير النظام.
***
عملية الإنتاج والتبادل المُعَولَمَة كشف الوباءُ العالمىُ عن نقاط الضعف فيها طالما كانت الدولة القومية الوحدة الأساسية فى النظام الدولى. سلاسل الإنتاج الموزعة على أكثر من بلد تعطلت وثمة شك فى أنه سيعود تشكيلها وتشغيلها سريعا بعد أن تنقشع غمة الوباء. بشكل أكثر تحديدا، أثارت مواجهة الوباء تساؤلات عما إذا كان من الممكن الاعتماد على الواردات فى السلع الحساسة أو تلك التى تصبح حساسة بين عشية وضحاها. الكمامات والقفازات وألبسة الوقاية للأطقم الطبية وأجهزة التنفس للمرضى حدث نقص حاد فيها كلها فى إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وبريطانيا والولايات المتحدة، وتخاطفت إياها هذه البلدان المتقدمة فيما بينها. هل تستمر هذه البلدان فى الاعتماد على غيرها فى إنتاج هذه السلع التى صارت حساسة أم تعيد توطين إنتاجها؟ ورءوس الأموال التى تدخل أسواقا مالية وتخرج منها فى أى وقت تشاء، هل تترك فى حالها مع ما ترتبه من رجات اقتصادية فى البلدان التى تخرج منها أم ينظم دخولها وخروجها وإن اعتبر هذا التنظيم زرعا للعراقيل وكبتا لحرية رأس المال؟ الاستنتاج الأرجح مما تقدم هو أن تبادل السلع ورءوس الأموال سيتراجع، ولكن ثمة توقعات بأن يتراجع السفر أيضا خوفا من الناس على أنفسهم، وهو ما يعنى انخفاضا فى السفر المرتبط بالتجارة الدولية، وانخفاضا فى التدفقات السياحية، بعبارة أخرى انخفاضا فى تجارة الخدمات. الانخفاض فى تبادل السلع والخدمات ورأوس الأموال يعنى تراجعا فى العولمة وإن لم يكن إلغاء لها.
هكذا نصل إلى حوكمة العولمة كعملية اقتصادية، من ناحية، وإلى حوكمة النظام السياسى الدولى المرتبط بها والحاكم لها، من جانب آخر. طالما كانت الدولة القومية هى الوحدة الأساسية فى النظام الدولى، وطالما كان القانون الدولى يسمح للدول فى الظروف الاستثنائية بأن تقدم مصلحتها الوطنية الضيقة على التعاون الدولى، وأن توقف مثلا تصدير الكمامات والقفازات وربما فى يوم قادم سلعا رأسمالية أساسية للإنتاج، فإن القواعد المنظمة لهذا التعاون ينبغى ألا تحول دون أن ينتج كل بلد حدا أدنى من هذه السلع بصرف النظر عن دعاوى الكفاءة الاقتصادية. المنطق ذاته ينطبق على حرية انتقال رؤوس الأموال المستثمرة فى محافظ فى الأسواق المالية، خاصة فى البلدان النامية وهى بلدان ذات اقتصادات هشة بحكم أنها بلدان نامية. من أجل أن تضطلع الدول بأبسط واجباتها وهو حماية السكان الموجودين فى إقليمها، فإن ممارستها للعولمة ستغير فعليا من قواعد تشغيلها.
***
أما النظام السياسى الدولى، فلقد كشفت مواجهة الوباء العالمى عن قصوره. النظام المعنى هو النظام المؤسسى الدولى المتمثل فى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية. على الرغم من جهود أمانة منظمة الصحة العالمية، أى جهازها التنفيذى، فى متابعة الوباء فلقد نعى عليها البعض، ومنهم الرئيس الأمريكى، عدم نجاحها فى تنسيق جهود الدول الأعضاء فيها وفى مراقبة سلوكهم واحترامهم للأحكام التى تفرض عليها الإفصاح عن الأوبئة والكشف عن البيانات الدقيقة والصحيحة لتطورها. سواء كان الادعاء فى محله أم لا، فإن أمانة منظمة الصحة العالمية مثل جميع أمانات منظمات الأمم المتحدة لا تملك أن تفرض شيئا على الدول الأعضاء فى منظماتها سواء كان ذلك التنسيق فيما بينها أو تزويدها بالبيانات أو مراقبتها. المشكلة تكمن فى أنه يطلب من التنظيم الدولى الاضطلاع بوظائف لا تمنحه الدول الأعضاء صلاحيات القيام بها. مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة المكلف بحفظ السلم والأمن الدوليين لم يستطع الاجتماع بشأن كورونا إلا يوم 9 إبريل، بعد شهر من إعلانه وباء عالميا، لأن ثمة دولا دائمة وغير دائمة العضوية اعتبرته من غير اختصاص المجلس وأنه لا يهدد السلم والأمن الدوليين وأخرى وجدت فى كورونا فرصة للنيل من الصين. أمام هذا الانقسام يبدو أن الأمين العام شعر بالوجل فلم يستخدم صلاحياته بمقتضى المادة 99 من الميثاق فى دعوة المجلس للانعقاد وهى صلاحيات استخدمها سلفان له فى سنتى 1956 و1979 إبان أزمتى الكونجو والرهائن الأمريكيين فى طهران. لأسابيع ناقشت الدول الخمس دائمة العضوية مشروع قرار أعدته فرنسا بينما ناقش الأعضاء العشرة الآخرون مشروع قرار أعدته تونس وفى النهاية لم يصدر إلا بيان رئاسى يعبر عن تأييد جهود الأمين العام لمواجهة الوباء. قارن هذا بالقرار الصادر فى سنة 2014 بشأن إيبولا حيث كان الوباء محصورا فى مناطق فى إفريقيا ولا شأن به لأى من الدول الكبرى. الأوبئة تتكرر ففى العشرين عاما الماضية نشأت المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة (سارس)، وإنفلونزا الخنازير، وإيبولا، وها هو كورونا يصل إلى قارات العالم أجمع. المنظمات الدولية وأجهزتها التنفيذية، أى أماناتها، قاصرة بالفعل. هل يمكن للعالم أن يتركها على هذه الحال والأوبئة تهدده ناهيك عن المصادر الأخرى لتهديده، مثل الأزمة المالية العالمية، التى تعصف باستقراره بشكل متكرر ويمكن بتواترها أن تخل فعلا بالسلم والأمن الدوليين؟ هناك من يشير إلى أن صائغى ميثاق الأمم المتحدة عندما تناولوا حفظ السلم والأمن الدوليين فى سنة 1945 كانوا يفكرون فى مصادر تهديده النابعة من الصراعات بين الدول، على غرار الحرب العالمية الثانية، وما قبلها من حروب، ولكن لم يدر بخلدهم مصادر التهديد من خارج المجتمع الدولى. اجتهد المجتمع الدولى، واجتهاده محمود، فى مواجهة التغيرات المناخية والبيئية عامة ولكن اجتهاده غير كاف، وها هو يواجه تهديد الأوبئة ومصادر تهديد أخرى نابعة من التشابك المتزايد فى العلاقات بين البشر، فهل يتجاهلها؟
ثمة من يعتقدون أن القوى الاجتماعية التى ستدفع أثمانا أعلى للوباء وتبعاته الاقتصادية والاجتماعية ستنظم نفسها لكى تضغط من أجل حوكمة دولية وعالمية فعالة تحميها من تبعات الأوبئة والتقلبات. هذه الحوكمة الفعالة تعنى قواعد معدلة ومستجدة للتعاون متعدد الأطراف، وفى القلب منه المنظمات الدولية.
لعل قوانا الاجتماعية تشارك فى هذه التنظيمات حتى نساهم فى صياغة قواعد الحوكمة المستحدثة ولكى تؤخذ مصالحنا فى الاعتبار.
والنقاشات دائرة أيضا عن أثر الوباء على الحكم فى كل دولة، عن ثنائية الديمقراطية والسلطوية.
هذا موضوع لمقال وحده.


أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة

إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات