شنّت طائرات إسرائيلية مساء يوم 2 مايو 2025، سلسلة غارات على مواقع عسكرية ومدنية فى سوريا، تُعد هى الأعنف منذ بداية عام 2025؛ حيث أفاد المرصد السورى لحقوق الإنسان بأن أكثر من 20 غارة جوية استهدفت عدة مواقع سورية شملت جبل قاسيون وبرزة وحرستا بريف دمشق؛ بالإضافة إلى مكان تجمع الدبابات فى إزرع والكتيبة الصاروخية فى موثبين فى درعا، وكتيبة الدفاع الجوى فى جبل الشعرة فى اللاذقية.
وفى ضوء هذه التطورات المتسارعة فى جنوب سوريا التى يقع فى القلب منها الدروز، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس يوم 30 أبريل عن تنفيذ عملية تحذيرية فى ريف دمشق استهدفت مجموعة وصفها البيان بـ«المتطرفة»، كانت تستعد لشن هجمات ضد السكان الدروز فى أشرفية صحنايا، كما وجهت تل أبيب رسالة للحكومة السورية تُطالبه بـ"التحرك الفوري" لحماية أبناء الطائفة الدرزية، مؤكدة أن أمن دروز سوريا يشكل خطًا أحمر لتل أبيب، لتتوالى الضربات الإسرائيلية والتى وصلت لحد قصف محيط القصر الرئاسى يوم 2 مايو، فى تطور لافت ومهم يحمل العديد من الدلالات ويكشف عن الكثير من الأهداف الإسرائيلية فى معادلتها للتصعيد فى سوريا ضمن مخططها الإقليمى لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، وهو ما يدفع للتساؤل التالى؛ ما حملته الضربات الإسرائيلية الأكبر فى سوريا منذ بداية عام 2025، عقب أحداث جرمانا وصحنايا، من دلالات كاشفة؟
• • •
بالنظر إلى طبيعة الأهداف العسكرية الإسرائيلية فى أعنف الضربات الإسرائيلية على سوريا خلال العام 2025، يُمكن الخروج بعدد من الدلالات الكاشفة للاستراتجية الإسرائيلية تجاه سوريا، وكذلك ما تعتمده من أدوات فى تنفيذها، والتى إن كانت تتضمن فى القلب منها دروز سوريا، لكنها تكشف كذلك عن المنظور الدرزى للإدارة السورية الجديدة ودورها فى القيام بدورها فى توفير الحماية والأمن لكافة فئات المجتمع السورى بما فى ذلك دروز سوريا. وهو ما يُمكن مناقشته كالتالي:
فرض الوصاية الجبرية الإسرائيلية على دروز سوريا:
منذ اللحظة الأولى لسقوط نظام الرئيس السابق “بشار الأسد” فى 8 ديسمبر 2025، واستندت التحركات الإسرائيلية فى الجنوب السورى إلى خطاب سياسى مفاداه؛ أنه على الحكومة السورية الجديدة أن تولى اهتمامًا بالغًا بحماية الأقليات فى سوريا، مع إيلاء خصوصية بالغة بدروز سوريا المتمركزين فى الجنوب السورى وعلى مقربة من الحدود الإسرائيلية السورية، مع انتهاج سياسية تُدعى “لم الشمل” فى إشارة إلى إعادة الجمع بين عائلات الدروز فى سوريا مع عائلات الدروز فى إسرائيل، لا سيما القاطنين فى الجولان المحتل الذى يقطنه أكثر من 24 ألف درزى، والعمل على ضمهم تحت مظلة وتوجيهات الزعيم الروحى للطائفة الدرزية فى إسرائيل “موفق طريف” الذى ينتهك سياسة متماهية وداعمة لتل أبيب، وهو ما يُستدل عليه فى الزيارة التى نظمتها تل أبيب فى 14 مارس 2025 لوفد ضم نحو 60 رجل دين من الدروز السوريين فى 3 حافلات رافقتها مركبات عسكرية إسرائيلية إلى بلدة مجدل شمس فى الجولان المحتل، والتى كانت هى الأولى من نوعها منذ حوالى 50 عامًا، للقاء دروز سوريا بدروز إسرائيل.
أما بالنسبة لثانى الجوانب الكاشفة فتتمثل فى التوظيف الإسرائيلى لما تعرض له دروز سوريا من عنف لإضفاء شرعية على ما نفذته من سلسلة ضربات عنيفة فى سوريا، بدعوى أنها تأتى تلبية لمطالب دروز الجولان المحتل لحماية أهاليهم فى سوريا.
ولقد أفادت إيكاد بأن الحملة الإسرائيلية الممنهجة تتكون من ثلاثة أقسام؛ أولها: الشق الاقتصادى الذى يوظف الأوضاع الاقتصادية المتردية فى السويداء لاستقطاب دروز سوريا للعمل فى إسرائيل عبر نشر إعلانات توظيف بإسرائيل موجهة لدروز سوريا، ودعمها من قِبل شخصيات درزية بمبادرات مجتمعية مشبوهة، وبالتالى تكوين شبكة مجتمعية درزية داعمة لتل أبيب فى كل ما تتخذه من سياسات، وبناء موقف درزى متكامل لدروز سوريا.
أما بالنسبة للجانب الثانى فهو الشق الإعلامى الممثل فى تكوين صفحات إعلامية ولجان إلكترونية تحمل الهوية الدرزية لترويج السردية الإسرائيلية الداعمة لانفصال السويداء، ومبررات فرض الحماية الإسرائيلية لدروز سوريا، بينما يُمثل الشق السياسى آخر جوانب الحملة الإسرئيلية، التى تتضمن شخصيات إسرائيلية ضمن الشبكة تُدعم المبادرات الانفصالية الداعية للتدخل الإسرائيلى عبر الدخول العسكرى والتطبيع الاقتصادى.
أما بالنسبة لرابع المؤشرات فتتمثل فى قيام حسابات الشبكة بتضخيم منشورات تدافع عن السردية الإسرائيلية الداعية إلى انفصال السويداء، فى مواجهه الرواية السورية الدرزية الداعمة للوحدة السورية، والمتمسكة بالفئة الدرزية ضمن مكونات المجتمع السورى، وهو ما يؤكد فى مجمله بأن هذه الحسابات ليست حسابات فردية، بل شبكة إسرائيلية مدعومة من قبل عناصر سورية درزية خارجة عن الصف الدرزى، تعمل على الترويج للسردية الإسرائيلية الداعية لانفصال السويداء عن محيطه السورى العربى، وضمه إلى المناطق المحتلة.
• • •
كشفت أحداث مدن جرمانا وصحنايا، عن ثانى الدلالات الكاشفة من الضربات الإسرائيلية الأعنف فى سوريا منذ العام 2025، والممثلة فى وجود أزمة ثقة بين مواطنى سوريا من الدروز والإدارة السورية الجديدة، حاولت الأخيرة معالجتها بشكل مؤقت بالتوصل إلى اتفاق مصالحة بين السلطة الانتقالية وأهالى محافظة السويداء، لإعادة الوضع الأمنى المستقر إلى السويداء، وبناء قناة تواصل والحفاظ على نقاط تفاهم بين حكماء السويداء وحكومة دمشق؛ أولها: البيان الصادر عن شيخ العقل الدرزي السوري حكمت الهجري تعليقًا على أحداث جرمانا وصحنايا، والكاشف لحجم الفجوة بين الإدارة السورية الجديدة ودروز سوريا.
أما بالنسبة لثانى المؤشرات الكاشفة لغياب الثقة بين دروز سوريا والإدارة الجديدة، مع تمسك الأول بانتمائه للدولة السورية، وكونه جزءًا من النسج المجتمعى السورى، فيتمثل فى ما ورد من بنود فى الاتفاق الموقع بين شيوخ العقل الثلاثة حكمت الهجرى، ويوسف جربوع، حمود الحناوى، بالإضافة إلى أعيان من المحافظة، وممثلين عن الفصائل العسكرية فى 3 مايو2025، من أجل ضبط الوضع الأمنى فى السويداء، والتى كان أبرزها؛ تفعيل قوى الأمن الداخلى (الشرطة) من أفراد سلك الأمن الداخلى سابقًا، وتفعيل الضابطة العدلية من كوادر أبناء محافظة السويداء حصرًا وبشكل فورى، بما يكشف عن تمسك دروز سوريا بالحماية الذاتية لأمنهم الداخلى، إلى جانب تمسكهم فى الوقت ذاته بالبقاء تحت كنف الدولة والرفض القاطع لأى دعوات للانفصال أو التقسيم.
بينما تتمثل ثالث المؤشرات فى الرفض القاطع لدروز سوريا تسليم سلاحهم إلى قوات الإدارة السورية الجديدة وتمسكهم بالحماية الذاتية لمصالحهم دفاعًا عن أبناء السويداء وليس بهدف الهجوم والعدوان، مع التأكيد على عدم مناقشة هذه المسألة فى الاتفاق الموقع بين وجهاء السويداء وحكومة دمشق، وأن دروز سوريا ليس لديهم مشكلة بتنظيم السلاح، ولكن ليس تسليمه، بما يضم بقاءه ضمن الحدود الإدارية للمحافظة وتابعًا للدولة.
• • •
إن إحدى الدلالات الكاشفة من حزمة الضربات الإسرائيلية فى سوريا، والمنعكسة فى تحليق الطيران الإسرائيلى فى ريف إدلب وحلب وحمص وحماة، بعيدًا عن مناطق الاشتباكات فى مدن جُرمانا وصحنايا وأشرفية صحنايا، والتى جاءت بالتزامن مع تحليق للطيران التركى فى الأجواء السورية نفسها، هو الرفض الإسرائيلى للنفوذ التركى فى سوريا، وسعى تل أبيب لتحجيم نطاق هذه النفوذ بما يضمن عدم تمدد أنقرة إلى الجنوب السورى.
• • •
على الرغم من الترويج الإسرائيلى بأن الهدف من شن تل أبيب أعنف ضرباتها فى سوريا خلال العام 2025 هو حماية دروز سوريا، فإن الضربات الإسرائيلية الأخيرة عكست أحد الشواغل الإسرائيلية فى سوريا، والممثلة فى تدمير ما تبقى من المواقع العسكرية التابعة للنظام السورى السابق، لضمان عدم وقوعها فى أيدى الإدارة السورية الجديدة التى تنظر إليها تل أبيب على أنها حكومة متطرفة، وهو ما ينعكس فى ضم الضربات الإسرائيلية عدة مواقع تابعة للنظام السابق، والتى يأتى من بينها مقر اللواء 47، وهو قاعدة عسكرية فى ريف حماة الغربى.
نهاية القول، إن الإدعاء الإسرائيلى بأن تدخلها فى الجنوب السورى، مع نشر مزيد من القوات، وإنشاء الكثير من المواقع العسكرية، بهدف حماية دروز سوريا فى الجنوب السورى، لا سيما القاطنين فى محافظة السويداء، يحمل من ورائه العديد من الأهداف الإسرائيلية التى تكشف فى مجملها جُملة من الشواغل الإسرائيلية العاكسة للخطوط الحمراء الإسرائيلية فى سوريا، ومهددات أمنها القومى، والممثلة فى استمرار استهداف ترسانة الأسلحة والصواريخ والقواعد العسكرية فى سوريا لضمان تقويض سلطة الإدارة السورية الجديدة باعتبارها حكومة متطرفة وفق المنظور الإسرائيلى، إلى جانب تحجيم النفوذ التركى فى سوريا، مع الحفاظ على منطقة عازلة بين مناطق النفوذ التركى، ونظيرتها الإسرائيلية فى سوريا. يُضاف إلى ذلك، كشفت الضربات الإسرائيلية فى سوريا عن حجم الفجوة بين الإدارة السورية الجديدة ودروز سوريا، مع تفضيل الأخيرة إلى الاعتماد على سياسة «الحماية الذاتية» فى ظل التمسك بالبقاء تحت كنف الدولة السورية، وهو ما يُمثل أحد التحديات الرئيسية التى تواجهها الإدارة السورية الجديدة، والتى قد تكون فى حد ذاتها نواة لمزيد من أعمال العنف والاشتباكات فى المستقبل القريب.
بسمة سعد
المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية