تعليم (منغلق) لسوق (منفلتة) - أميمة كمال - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 12:41 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تعليم (منغلق) لسوق (منفلتة)

نشر فى : الأحد 18 أكتوبر 2009 - 10:43 ص | آخر تحديث : الأحد 18 أكتوبر 2009 - 10:43 ص

 كنت قد أوشكت على أن أقسم أن يكون آخر مؤتمر أحضره فى حياتى هو هذا المؤتمر، على أن أعتزل نهائيا عن حضور غيره بعد أن وصلت إلى مرحلة الكفر بأهمية تكرار الأحاديث حول تشخيص أوجاعنا الاقتصادية والاجتماعية، وماذا أوصلنا إلى ما نحن فيه، ومن أوصلنا إليه؟ خاصة أنه حتى الأحاديث عن مبكيات المصريين ومضحكات الوزراء، والتى تستدعيها عادة مثل هذه المؤتمرات، هى الأخرى لم تعد تستهوينى من كثرتها. ولكن سرعان ما عدت عن قرار الاعتزال وأنا أكمل مؤتمر الإدارة العليا، الذى أنهى أعماله أمس بفاصل لم يخل من بعض مبكيات ومضحكات الوزراء.

والذى دعانى إلى العودة عن قرار الاعتزال هو ما بدا لى من أنه على الرغم من حالة الإفلاس التى أصبحت سمة مميزة للنخبة المثقفة الحالية فى مصر، والتى عقم إبداعها ولم يعد قادرا على إنجاب مولود جديد، فإن الحوار الجمعى بينها مازال قادرا على أن يكتب جملا مفيدة قد تشحذ آخرين على التفكير فيها، وتفكيرهم هذا قد يدفع آخرين جددا إلى كتابة جمل جديدة، ومعا ينجبون المولود.

الجملة الموصولة كلماتها التى كتبها المؤتمر صاغها كل من شريف دلاور، نائب رئيس جمعية رجال أعمال الإسكندرية، الذى تحدث عن أننا نعيش سوقا منفلتة بكل معنى الكلمة، تعبث باقتصادها رأسمالية مغشوشة، أرباحها كسولة ولا تدفع عنها ضرائب، رأسمالية تجد مصلحتها مع الأجنبى الذى دائما ما تأتى به، دون أن تعبأ كثيرا بما يحوله من خير للخارج.

ويأتى د.شريف يونس، أستاذ التاريخ بجامعة حلوان، يتحدث وكأنه يكمل الجملة التى بدأها دلاور: يحدث هذا بينما نحن نتعلم تعليما منغلقا نعرف أنه يقودنا إلى مزيد من السلطوية وكثير من الولاء.

والحقيقة أن فى شرحه لما يتعلمه أولادنا فى الإعدادية والثانوية فى حصص التاريخ ما يقشعر الأبدان، فقد قال د.شريف إن التاريخ فى المدارس يتميز بمحدودية نطاقه، فما يتعلمه التلميذ لا يخرج عن التاريخ الفرعونى وحضارات الشام والعراق على استحياء، وفى العصر الحديث لا يعرفون شيئا سوى عن مصر والقضايا العربية وتستبعد المناهج تاريخ آسيا وأفريقيا وأوروبا والأمريكتين، مع تناول سريع للحضارتين الإغريقية والرومانية، مع أنه كان يتم تدريس تاريخ أوروبا الحديث قبل سنوات من الآن، أى أن التعليم يميل نحو مزيد من التقوقع.

والتاريخ المطروح للحفظ على التلاميذ ليس له أى رؤية من أى نوع، لا سلبية ولا إيجابية. المنهج متقوقع بالكامل على الذات وكأن واضع المنهج، وهو النظام الحاكم، قرر أن يفقأ ليس عينه فقط ولكن عيون ضحاياه من التلاميذ. إلى جانب أن المناهج تتعمد إدانة الغير طول الوقت وتمجيد الذات، وقال إن كتب التاريخ تصاغ وكأن الحضارة المصرية القديمة تقف فى العراء معزولة عن الحضارات الآخرى، مما يعنى أن مفهوم الحضارة لديهم ليس فيه تفاعل مع الآخر أو كفاح لبشر آخرين. وهذا من شأنه تخريج طالب يعتبر هويته مركز الكون وبالتالى يشعر بأن هذه الهوية المقدسة يتم إزاحتها عن المركز الذى تستحقه بفعل العالم الخارجى، مما يغرس فى نفسيته العداء للأغراب والخوف منهم على أساس فارغ من الاستعلاء.

ويبدو أن د.شريف كان مصرا على أن يجعل كل منا يعود إلى أولاده ويدرس مناهجهم لذلك فهو يزيد قائلا: إن المناهج «جبانة» لأنها لا تصف الواقع على حقيقته فمثلا يغفل المنهج الحديث عن وجود ميول معتدلة فى مواجهة الاحتلال مثل حزب الأمة، أو وجود قوى أخرى مناصرة للاحتلال. كما أن المناهج تخرج طالبا مقطوع الأذن منزوع العقل وكأنها تأتى «بوابور زلط» ثقيل تسوى به التاريخ خاصة عندما قدمت ثورة يوليو كتاريخ هادئ لطيف يخلو من الصراعات والمنعطفات، وكذلك فعلت عند تقديمها لعهد مبارك باعتباره امتدادا لثورة يوليو، وتم فى عهده تحقيق مبادئ الثورة الستة بالكامل، هكذا يكمل د.شريف ليزيد استفزازنا.

وطبيعى أن هذا الوعى الوطنى الذى تقدمه المناهج سرعان ما يتحطم لدى الطالب بمجرد أن يعرف شيئا عن الإخوان المسلمين، والحركة الشيوعية، أو عن الصراع الناصرى الوهابى أو الناصرى البعثى فتنهار مصداقية المناهج لديه.

وقال د.شريف إن طرد العالم من المنهج لا يعنى طرده من الواقع لأن الطالب عندما يلمس فى حياته اليومية مدى التأثير الذى تحدثه التكنولوجيا المستوردة أو دور الولايات المتحدة فى المنطقة، فسوف يجد تناقضا بين التعظيم الذاتى الفاقد للمضمون الذى تقدمه المناهج وبين العالم من حوله. فعندما يتعلم طالب الثانوى «أن المواطن الصالح عليه أن يعتز بالقيم والتقاليد السائدة فى مجتمعنا ويكتسب من المهارات ما يجعله قادرا على مواجهة أى مشكلة تنال من استقرار المجتمع المصرى» فمعنى ذلك أن عليه أن يحصن نفسه داخل حصار ذاتى، منعزلا عن العالم..

فعلا ما أجمله زمن نعيش فيه منفلتون إلى حد الفساد صباحا منغلقون حتى النخاع ليلا.

أميمة كمال كاتبة صحفية
التعليقات