أحب الناس البسيطة التى تتعامل على سجيتها، أما المتلونون فلا ود بيننا مهما كان كلامهم معسولا ومظهرهم جذابا. عادة ما يكون لهؤلاء المتلونين حضور فى المجتمع بشكل عام وفى الساحات الإعلامية بشكل خاص.. يزداد نشاطهم فى فترات مثل الانتخابات، ويتواجدون بكثرة مع كل زفة أو مناسبة. يتقنون القفز بين مختلف الحبال، ويعتقدون أن ما يفعلونه يندرج تحت إطار الشطارة والحنكة. واللافت أن هناك بعض السذج الذين يصدقون ما يقوله هؤلاء ويلتفون حولهم، دون أن يستوقفهم تبدل علاقاتهم بحسب المصلحة الشخصية والرغبة المحسوبة فى المجاملات. وعلى الأغلب يشكل هؤلاء المتلونون جبهة مشتركة مع من يشبهونهم حتى لو كرهوا بعضهم البعض أو تضاربت أهدافهم أحيانا. يتصدرون كل مشهد وكل فرصة وكل وقت لنراهم ونسمع ضجيجهم، فهم حريصون على جذب الانتباه ويبالغون أحيانا فى ردة فعلهم حتى لا تمر حركاتهم مرور الكرام. يرعون مع الراعى ويأكلون مع الذئب ويسيرون فى مراكب الكبار.
***
كلما ابتسم أحدهم فى وجهى ابتسامة باهتة وتشدق بإطراء كاذب، أضحك فى سرى وأكرر مقولة «على كل لون يا باتيستا!» أو كما ينطقها البعض «يا باطسطه»، مثلهم مثل بائع يحاول أن يروج لبضاعته أمام دكان ملىء بهذه النوعية من القماش القطنى الخفيف التى لا يعرف اسمها العديد من أبناء هذا القرن. «الباتسيتا» هو نوع من القماش كان مشهورا ومنتشرا فى مصر بين الفقراء ومحدودى ومتوسطى الدخل، يتميز بملاءمته للجو الحار وبتعدد وتباين الألوان والزخارف. اعتبره البعض مثاليا لصناعة الملابس الداخلية والبلوزات والمناديل، فهو نسيج ناعم خفيف شبه شفاف. قيل ضمن ما قيل إن مجموعة من عمال النسيج المهرة تركوا مصر فى عهد رمسيس الثانى هربا من قسوة ظروف العمل وارتحلوا إلى مدينة صور حيث تجارة الفينيقيين الرائجة، فهم يتبادلون البضائع مع موانئ أيرلندا وإسبانيا والبرتغال وغيرها من الدول الأوروبية. اصطحبوا معهم فى رحلاتهم مجموعة العمال المصريين وبذور الكتان فانتشر هذا الأخير وما شابهه من المنسوجات فى ربوع القارة البيضاء تدريجيا، ثم شاع استخدامه لاحقا فى القرنين الثانى والثالث عشر. خلال هذه الفترة ذاع صيت أحد النساجين فى ميناء كامبريه شمالى فرنسا، كان يدعى باتسيت. استطاع أن يصنع قماشا قطنيا خفيفا حمل اسمه ومن هنا جاءت كلمة «باتيستا». فى حين يظن البعض أن أصل التسمية يرجع إلى الكلمة اليونانية «باتيسما» التى تطلق على قماش قطنى يصبغ بألوان زاهية مثل الأزرق الفاتح، بعد أن يتم نقعه بالكامل فى محلول الصباغة، كما يتم تغطيس الطفل فى مياه المعمودية. ومن هنا جاء سبب آخر للتسمية له أصول دينية، إذ نسب القماش بسبب طريقة صباغته إلى جون باتيست أو يوحنا المعمدان واستخدم فى حياكة فساتين طقس التعميد التى يلبسها الأطفال المحتفى بهم وملابس الكهنة.
***
على كل حال، فكرة القماش الخفيف الذى يحمل الكثير من الرسومات والألوان هى ما ربطته بمقولة «على كل لون يا باتيستا» للدلالة على تلون الأشخاص وفقا للمصالح والأهواء، بعيدا عن رحلة تطور القماش الذى كان مفضلا لدى الملكة آن النمساوية، أم لويس الرابع عشر، ورمزا للأناقة والرقى مع ظهور المناديل البيضاء فى القرن السادس عشر، ثم استخدام الإنجليز له فى القرن التاسع عشر بعد أن نسبوه لمستعمراتهم وتحديدا لبحيرة تانا الإثيوبية حيث زرعوا القطن طويل التيلة. اختفى قماش الباتيستا عالميا من المشهد تدريجيا بعد الحرب العالمية الأولى، لكن ظل المتلونون فى كل مكان يذكرونا به، كما يذكروننا بحكاية شخصيات فكاهية مستوحاة من الواقع مثل «زعيط ومعيط ونطاط الحيط»، فهؤلاء ينتمون أيضا للفصيل نفسه الذى لا تنتهى موضته.
يُروى أن زعيط اشتهر بالفهلوة والبخل، أما معيط فكان «كسيبا» واشتهر بإبداعاته فى خلق مجالات ربح غير معهودة وعرف عنه أنه كثير الجلبة، أما نطاط الحيط فكان لصا ماهرا يقفز فوق الجدران ليصل إلى هدفه. يتسلق مثل نبات اللبلاب. لسانه مراوغ. لا يستقر على حال. يسعى لأن يتم احتسابه دائما ضمن أهل الطليعة، فى حين منطقه أعوج وقيمه واهية. يقول بفخر فى قرارة نفسه: أنا الحاوى، والحاوى أنا... إذ يستطيع تغيير لونه مثل الحرباء. يتحور ليتكيف مع الوسط الذى يعيش فيه، ويجيد فنون التخفى لتفادى الأخطار... نفاق ومداهنة ومراوغة رخيصة تجعله «حلس ملس» كالأفاعى، لكن «قلبه نجس»، كما يقول أهل الشام. كشف حساب سيئاته لا يعد ولا يحصى.
حين يقابلنى مثل هذا الشخص ويتمنى لى صباحا عطرا مثل الفل، أفهم أن هناك شيئا غامضا وأن الاحتراس واجب. أتمنى أن يكتشف الناس أمره، أن يركبوه على حمار بالمقلوب ويتجولوا معه فى الساحات الرئيسية والميادين وهو صامت لا ينطق بحرف، وذلك بعد حلق شعره ودهن وجهه بالقار وتعليق الأجراس حول رقبته لتجريسه، عندئذ يعرف القاصى والدانى أنه متلون حاذق، يغير جلده ثلاث مرات فى السنة مثل بعض الزواحف، وربما أكثر.