الثورة المعمارية المضادة - أيمن النحراوى - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 2:01 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الثورة المعمارية المضادة

نشر فى : السبت 19 مايو 2012 - 9:05 ص | آخر تحديث : السبت 19 مايو 2012 - 9:05 ص

آمن أجدادنا الفراعنة منذ سبعة آلاف عام بأن التشييد والبناء والعمارة هى مرآة لحضارتهم ورمز لعزتهم فشيدوا من الأهرام والصروح والمعابد ما خلد ذكرهم وبهر العالم بمعارفهم وأعمالهم، لكن اليوم وللأسف لا يؤمن الأحفاد بما آمن به الأجداد، لا يؤمنون بأن المبانى يمكن أن تتجاوز مكونها من الخرسانة والحديد لتكون عملا هندسيا فنيا يمكن أن يعبر عن شخصية الوطن وروح المجتمع وثقافته وحضارته، أصبح هؤلاء وقد سيطرت عليهم مفاهيم حددت هدفهم فى التربح بكل وسيلة ممكنة حتى لو كان ذلك بمخالفة القانون وانتهاكه واستغلال ثغراته وإفشاء الفساد والرشوة فى جنباته؛ حتى لو تولد عن ذلك إنهاك الوطن وتدمير المجتمع ومقدراته وموارده وإمكاناته.

 

عندما قامت الثورة المجيدة كان هدفها مصر الأفضل والأقوى مصر العدالة والتنمية والمستقبل، ومنذ عام وأكثر والجميع منشغل بالاسهام فى إعادة تنظيم وبناء هذا الوطن، إلا فئة أخذت على عاتقها استغلال ما يحدث بأقصى ماي مكن وأسرع ما يستطاع لتحقيق أرباح طائلة قبل أن تستقر الأمور وتتعافى أجهزة الدولة وتعود لممارسة دورها فى الإدارة والتنظيم وتنفيذ القانون، كان مسار هؤلاء هو تبوير مئات الآلاف من الأفدنة من أجود الأراضى الزراعية والبناء المخالف عليها، ففقدت مصر بذلك جزءا لا يمكن تعويضه من أراضيها الزراعية الخصبة، من خلال جريمة مزدوجة هى تبوير الأرض الزراعية والبناء العشوائى غير المرخص عليها، لينضم على أثر ذلك ملايين السكان إلى مجتمعات عشوائية غير مخططة تتكون تدريجيا مع افتقادها للمقومات الأساسية والمرافق لتنشئ أحزمة للفقر والتخلف حول المدن والقرى وعلى أطرافها.

 

ولتفقد مصر جراء هذه الجريمة واحدة من مقومات حياتها وهى الأرض الزراعية الثمينة التى تغتصب جهارا نهارا دون وازع من ضمير أو رادع من قانون أو سلطة مهابة للتنفيذ، وبما يهدد بجعل البلاد مكشوفة أمنيا بصورة خطيرة يمكن أن تضع الشعب المصرى على حافة المجاعة والموت ولاسيما فى أوقات الأزمات السياسية أو العسكرية والتى يمكن فى أثنائها قطع خطوط التجارة البحرية وإغلاق الممرات الملاحية المؤدية إلى الموانئ المصرية أو ضرب الحصار على السواحل المصرية، حتى ينفد الاحتياط الاستراتيجى من السلع الغذائية ومن ثم تجويع مصر وإذلالها والتحكم فى مقدراتها.

 

●●●

 

هل انقضى ذلك الزمان الذى كنا نسمع فيه الأقوال الحكيمة للمصرى الأصيل والتى كانت تقول بأن الارض عرض، وبأن حمايتها والزود عنها تقترن بالشرف واحترام الذات، تحول ذلك كله إلى تربص مستمر من العديد من ملاك الاراضى لأية فرصة لتبوير الارض والبناء عليها، بدوافع شخصية أنانية بحتة ضيقة الأفق، تتجاهل صالح الوطن وأمنه الزراعى والغذائى، فى وقت تصارع فيه مصر تهديدا فعليا يتعلق بحصتها من مياه النيل، وفى ظل تصدر مصر المركز الأول فى معدلات التصحر وفق تقرير الأمم المتحدة، والتصحر هو انكماش مساحات الأراضى الزراعية وتدهور خصوبتها وانخفاض إنتاجيتها وتزايد معدلات التعديات عليها، أن مصر تفقد ثلاثة أفدنة ونصف الفدان كل ساعة من أراضيها الزراعية الخصبة والمحددة نتيجة الزحف العمرانى والبناء، وهو ما يعد معدلا قياسيا غير مسبوق نتيجة تغليب المصلحة الذاتية والأنانية القميئة وغياب الرقابة والانفلات الأمنى والفساد الذى يتواطأ ويتساهل مع هذه الجريمة النكراء، والتى يتوقع الخبراء إن استمرت بهذا المعدل أن تختفى الاراضى الزراعية الخصبة فى وادى النيل بعد 60 عاما.

 

الآخرون اتخذوا مسارا مختلفا كان بالهجوم الضارى على آلاف الفيلات والقصور ذات الطابع المعمارى الفريد وقاموا بهدمها دون ترخيص بذلك والاسراع ببناء أبراج شاهقة مخالفة من حيث المواصفات والارتفاعات، ففقدت مصر بذلك جزءا ثمينا من تراثها المعمارى والحضارى وظهر بدلا من ذلك كتل خرسانية قبيحة تفتقد الروح المعمارية والطابع الراقى، وفى ظل السعى نحو تدنى التكاليف وتعظيم الأرباح كان تردى مستوى مواد البناء المستخدمة وافتقار معايير الجودة والأمان ومخالفة قوانين واشتراطات البناء مع افتقار غالبتها للأسس الإنشائية السليمة وتجاوز الارتفاعات المسموح بها إلى ارتفاعات شاهقة لا تتحملها المرافق والبنية الاساسية المتهالكة أصلا من شبكات الكهرباء والاتصالات والمياه والصرف والضغط الشديد على وسائل النقل والمواصلات وحركة المرور فى ظل كثافة سكانية هائلة غير مخططة، تتحول معها الحياة إلى معاناة وأزمات على مختلف الأصعدة، فضلا عن مخاطر الانهيار الحتمى لمثل هذه المبانى.

 

●●●

 

المؤسف أن ما تم استخدامه من مواد البناء من الحديد والاسمنت وجهود العمال ووسائل النقل والإمداد والموارد الاقتصادية فى هذه الجرائم كان يمكن أن يبنى مدنا حديثة مخططة ومنتجة وفاعلة نغزو بها الصحراء التى تغزونا ونتوسع بها خارج الوادى الذى ضاق بنا، مدنا تحقق أهدافا اقتصادية وتنموية ومستقبلية للإنسان المصرى فى حاضره ومستقبله، مدنا يستطيع الانسان أن يعيش حياته فيها دون معاناة أو إجهاد، مدنا حديثة تستطيع أن تستوعب وتحقق التقدم والتطور وتساهم فى بناء الفرد والمجتمع والوطن، لكن فى ظل التخطيط الغائب والقانون المنتهك والادارة المتراخية والموظفين المتواطئين المرتشين، تأبى العقول المريضة والنفوس الضعيفة إلا أن تتجه بجشع نحو التربح حتى لو كان ذلك على حساب الوطن ومصالحه وحاضره ومستقبله.

 

ولا يختلف اثنان على أن عمليات التشييد والبناء والتعمير تعتبر بمثابة أهم التروس المحركة لقاطرة التنمية الاقتصادية، لكن ما يحدث اليوم فى مصر وفى الأونة الراهنة لا يمكن أن يندرج تحت أى منها، فعمليات البناء التى تجرى على قدم وساق فى كل أنحاء مصر وفى سباق مع الزمن لا يمكن إلا أن توصف بالفوضى الكاملة والعشوائية المدمرة فى ظل التسيب والفساد والتراخى على مستوى الإدارات والهيئات والأجهزة المعنية، وانشغال الجميع عن المصالح الحقيقية للوطن وما تتعرض له مصر من مخاطر، مقابل انغماسهم الشديد فى الصراعات السياسية الداخلية محدودة الأفق سعيا وراء الاستحواذ على السلطة وإقصاء الآخرين وهى أيضا لا يمكن إلا أن توصف بأنها حالة مؤسفة من التردى الفكرى والسياسى الذى يتجاوز كل الحدود المقبولة.

 

كان من المتصور أن يتحرك الجميع لمواجهة هذه الكارثة لكن ذلك لم يحدث، حتى مجلس الشعب الذى أمل فيه الكثيرون كهيئة تشريعيية ورقابية تضم ممثلى الشعب ونوابه المفترض منهم أن يعبروا عن مصالح الشعب، لم يول هذه القضية المهمة الاهتمام الكافى وحولها إلى لجنة الادارة المحلية بالمجلس التى أصدرت بشأن الموضوع توصيات جاءت لتفاجئ الجميع وتصدمهم فى محتواها وآثارها على القضية، فقد توقع الجميع أن تتصدى اللجنة المذكورة بحزم لهذه الانتهاكات الصارخة وتتخذ ما يلزم لمعالجة والسيطرة على هذه الكارثة واحتواء تداعياتها، وإذا بها توصى بتوصيل المرافق للمبانى المخالفة وتكاد هذه التوصيات تتجه نحو تقنين أوضاع تلك المبانى.

 

●●●

 

إن ما سبق ما هو إلا مؤشر على التراخى فى التعامل مع جريمة فى حق الوطن والمجتمع بدلا من مواجهتها بما يلزم من الشدة والحزم، وبدلا من اتخاذ اجراءات رادعة تعاقب من ارتكبها وتحول دون تكرارها، إذا بها تقبل بها وتكتفى بمحاضر وإجراءات ادارية محدودة مع توقيع غرامات مالية تسعد المسئولين والموظفين بالإدارات والهيئات والاجهزة المعنية الذين جرت تحت أعينهم المخالفات وبتواطئهم أو غفلتهم أو تراخيهم، لكونهم يحصلون على نسبة منها تضاف إلى دخولهم ورواتبهم، بما يمثل عودة جديدة لسيادة قانون التصالح مع المخالفات والقبول بها باعتبارها أمرا واقعا، مما يدفع حتما نحو حدوث موجات جديدة من المخالفات فى ظل قانون يتصالح ويهادن وغياب أمنى وفساد وتراخٍ وتواطؤ ينخر بداخل الادارات والهيئات والاجهزة المعنية.

 

ولا يمكن أبدا القبول بالأوضاع الراهنة، لا سيما أن ذلك يسهم فى فوضى ومشكلات هائلة على المدى الطويل تتعلق بمواجهة واحتواء الآثار الكارثية لهذه الثورة المعمارية المضادة وسرطان البناء والتوسع العشوائى وانهيار شبكات المرافق والبنية الأساسية والمتطلبات المالية الهائلة الملقاة على عاتق الدولة لتطوير الشبكات القائمة وإنشاء شبكات جديدة لمجتمعات عشوائية وأبنية سرطانية مخالفة لا ينتظر منها الكثير سوى المزيد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والامنية، لا تصالح مع الفوضى والفساد والعشوائية، فلنبنى مصر بالعلم والعمل والقانون والنظام.

أيمن النحراوى  خبير اقتصاد النقل والتجارة الدولية واللوجيستيات
التعليقات