«اللى اختشوا ماتوا».. ميلودراما الصوت العالى - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:08 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«اللى اختشوا ماتوا».. ميلودراما الصوت العالى

نشر فى : الخميس 19 مايو 2016 - 9:55 م | آخر تحديث : الخميس 19 مايو 2016 - 9:55 م

لا أعتقد أن العمل الفنى الركيك يمكن أن يخدم قضية حتى لو كانت نبيلة، وأفضل ما يفعله فنان هو أن يتقن عمله، وأن يقدم تجربة جمالية متماسكة وصادقة تعبر عن أفكاره بطريقة غير مباشرة، وإلا تحول العمل إلى مظاهرة صاخبة ومزعجة، لا تمتع بالفن، ولا تقنع بالأفكار.

مناسبة الكلام مشاهدتى لفيلم «اللى اختشوا ماتوا» الذى كتبه محمد عبدالخالق، وأخرجه إسماعيل فاروق. يفترض بمنطق الفكرة والنية أنه فيلمٌ يدافع عن نماذج نسائية مظلومة فى مجتمع ذكورى، وهن موجودات فى كل زمان ومكان، ولكن الفيلم بمنطق الفن لا يزيد عن ميلودراما سخيفة، تجعلنا نترحم على الراحل حسن الإمام الذى كانت أفلامه أفضل، رغم أننا كنا نتندر عليها فى زمنها.

«الميلودراما» نوع من أنواع الدراما، ومشكلته الأبرز فى الاعتماد على التأثير العاطفى المبالغ فيه، والانحياز للمصادفات والانقلابات غير المبررة، تنسحب المبالغة كذلك على أداء الممثلين، والاستخدام المفرط للموسيقى فى معظم أجزاء الشريط السينمائى، ومن مشكلات الميلودراما «التنميط»، بمعنى تقديم شخصيات أحادية الجانب، أشرار وأخيار، ملائكة وشياطين، وهو ما يتناقض مع رمادية الطبيعة الإنسانية، وكأننا نشاهد كائنات فضائية مصنوعة، تتحرك أمامنا بخيوط واضحة، وبطريقة مفتعلة.
الميلودراما تحتمل فى العادة خطا كوميديا يخفف منها، وتمتزج فى أحيانٍ كثيرة بالغناء، بل إن أفضل فيلمين من نوع الميلودراما قدمتهما السينما المصرية، فى رأيى، من هذه التوليفة التى تجمع بين المأساة والغناء وبعض المواقف الكوميدية؛ أعنى بذلك فيلم «الخطايا» من إخراج حسن الإمام، وفيلم «الشموع السوداء» من إخراج عز الدين ذو الفقار.

فى الفيلمين ساهمت قصة حب رقيقة، وأغنيات عبدالحليم حافظ ونجاة، فى التخفيف من الانقلابات العجيبة، ومن المفاجآت والتحولات العاصفة، كما لعبت خفة ظل حسن يوسف فى الفيلم الأول، وخفة ظل فؤاد المهندس فى الفيلم الثانى، دورا واضحا فى معادلة تأثير النكد والكوارث والأحزان فى قصة الفيلمين.

«اللى اختشوا ماتوا» يفتقد حتى تلك العناصر المخففة، إنه ميلودراما أقرب إلى الأفلام الهندية القديمة، ولكن بدون أغنيات أو مشاهد مرحة، لدينا فقط عدة نماذج نسائية تقيم معا فى بنسيون فى وسط البلد اسمه بنسيون «الشيشة»، وتحاصرهن المشكلات والكوارث، بل إن ثلاثا منهن ترتدين بدلة الإعدام، وواحدة يقتلها أهلها فى الصعيد، يضاف إلى ذلك جريمة قتل عنيفة يذهب ضحيتها الرجل الذى أراد تشويه سمعتهن، وترتكب الجريمة واحدة من نساء الفندق البائس.


سبع نساء يُفترض أن نعرف قصصهن من خلال سيناريو متماسك، ولكن التخبط بدأ مبكرا، سواء فى عدم التوازن فى ضبط وتضفير الحكايات معا، أو فى اضطراب السرد بمشاهد «فلاش بلاك» يتم وضعها كيفما اتفق، مع التركيز بالطبع على حكاية ليل (غادة عبدالرازق) بطلة الفيلم ونجمته، إنها القصة التى ستقدم بتفاصيل أكثر، وسترتبط بها الأحداث العاصفة داخل البنسيون، بينما قدمت قصص أخرى بلمسات سريعة، بل إننا سننسى بعض الشخصيات ثم نعود إليها لنتذكرها.


صفية (سلوى خطاب) هى صاحبة البنسيون، لا نعرف عنها سوى أنها كانت راقصة، أحبت رجلا وأحبها، تزوجها ثم مات، فأصبحت تعيش على ذكرياته، تؤدى سلوى الدور بنفس الطريقة التى قدمتها فى أدوار مشابهة فى التليفزيون، ترفع صوتها، وتلوح بيديها وكأنها من العوالم فى سينما الأربعينيات، استدعاء الكليشيهات من أبرز مشكلات أداء الممثل عموما، والممثل المصرى خصوصا.


أما ليل (غادة عبدالرازق) فهى ابنة شقيقة صفية القادمة للإقامة فى البنسيون، ليل كانت ممرضة أحبت طبيبا شابا (أحمد صفوت)، المدهش أن الممرضة تبدو فى مستوى اقتصادى جيد، بل إنها ستساعد زوجها الطبيب على أن يفتح عيادة بأموالها (!!)، وستنجب منه طفلة صغيرة، ولكنها ستتورط فى قضية مفتعلة لبيع أدوية فى جدول المخدرات، تدخل ليل السجن، وتخرج بعد سنوات لحسن السير والسلوك.


وتؤدى عبير صبرى دور فتاة تعمل فى حمام مغربى، امرأة طموح تحلم بأن تمتلك حماما مغربيا، وفى سبيل ذلك تتنازل عن كل شىء، ثم تبيع فى النهاية زميلات البنسيون. وفى قائمة النزيلات ممثلة شابة تلعب دورها هيدى كرم، وراء الممثلة قصة اضطهاد من زوج سابق، ومحاولات العاملين فى الوسط الفنى استغلال جسدها، فى مقابل أن تحصل على أدوار فى الأعمال الفنية، ولدينا أيضا فتاة صعيدية (أميرة الشريف) هربت مع حبيبها الصعيدى ليتزوجا فى القاهرة، مما يستدعى (كما تعلم) الانتقام منها لغسل العار، وفتاة تستعد للزواج (مروة عبدالمنعم)، وفتاة تأخرت فى الزواج (مروى)، والاثنتان تربطهما علاقة ملتبسة وقديمة بصاحب محل للملابس (محمد محمود عبدالعزيز)، يرتكب تقريبا كل الشرور، حتى يقتل طعنا فى المحل.


لا يكتفى الفيلم باضطراب السرد، وعشوائية العودة للماضى، وعدم القدرة على ضبط قصص النساء السبع معا فى بنسيون صغير، ولكنه يضيف شخصية رجل البوليس العنيف (إيهاب فهمى) الذى يبدو لنا فى البداية وكأن لديه ثأرا مع المقيمات فى البنسيون، ثم نكتشف أنه لم يكن يفعل سوى تأدية عمله، بعد أن أحكمت مؤامرة كونية تقريبا ضد النساء، وبعد أن أصبحن هدفا للعدالة، مرة بتهمة ممارسة الدعارة، ومرة ثانية بتهمة قتل صاحب محل الملابس.


إذا كنت تتوقع فواصل من النحيب والبكاء والصراخ، فأنت بالطبع على صواب، أما الحبكة البوليسية العجيبة للفيلم فهى تنتهى بنا من جديد إلى حكاية ليل مع زوجها، كما تكشف عن نذالة فتاة الحمام المغربى مع صديقاتها، يريد الفيلم أن تنحاز إلى حكايات غريبة تفتقر إلى التفاصيل، وتفشل فى تقديم مشاهد جيدة كتابة أو تنفيذا، ثم تعمل موسيقى تامر كروان فى نفس الاتجاه، حيث أضيفت لها أصوات صارخة، تستكمل البكائية على نساء بنسيون «الشيشة».


فى أفلامٍ كثيرة سابقة؛ مثل «يا دنيا يا غرامى» لمجدى أحمد على، أو «أحلى الأوقات» لهالة خليل، كانت التفاصيل الإنسانية البسيطة هى مدخل عرض النماذج النسائية ومشكلاتها وهمومها، أما ميلودراما الصوت العالى فى «اللى اختشوا ماتوا» فهى بعيدة عن كل ذلك، وباستثناء مشهد غناء النساء فى فرح زميلتهن، ومشهد تتحدثن فيه وتفضفضن عن الرجال، لا نجد فى الفيلم سوى خطوطا درامية مفتعلة أو مبتورة، حتى الفتاة الممثلة تتغير نظرتها للرجال بمجرد مقابلة مع مخرج محترم، يكشف لها عن وجه آخر للوسط الذى تريد أن تعمل فيه.


فى أفلام الراحل حسن الإمام كل عيوب الميلودراما، ولكنه كان يعرف أيضا كيف يخفف من تأثيرها، كما كان يتعامل مع ممثلين كبار، وما زالت نماذج النوع الأفضل من إخراجه، أما نماذجها الحديثة كما فى أفلام مثل «ريكلام» و«اللى اختشوا ماتوا»، فإنها بالتأكيد أقل إتقانا على كل المستويات، ولذلك تندهش بأن يأتى المشهد الأخير متفائلا، وكأننا يمكن أن نصدق أن أحدا يمكن أن ينجو من هذه المؤامرات، أو أن مشاهدا يمكن أن يستقبل الحياة بأى قدر من البهجة، بعد أن تورط فى دخول الفيلم.


لا تحتاج أن تقود النساء إلى حبل المشنقة بالبدل الحمراء لكى تشعرنا بالتعاطف معهن، يكفى أن تعبرن عن مشاعرهن فى مواقف صادقة، ودمعة تلمع فى العيون أكثر تأثيرا من لطم الخدود.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات