وهل كنا نعيش في المدينة الفاضلة؟! - عماد الدين حسين - بوابة الشروق
الثلاثاء 20 مايو 2025 12:29 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

وهل كنا نعيش في المدينة الفاضلة؟!

نشر فى : الإثنين 19 مايو 2025 - 6:30 م | آخر تحديث : الإثنين 19 مايو 2025 - 6:30 م

‎فى الأيام الأخيرة قرأت العديد من المقالات والعبارات التى تشير إلى معنى واحد وهو:

 


‎«إن العالم تغير بحيث إنه يركز على التجارة والأسواق، ولم يعد يعرف إلا لغة الأرقام، ونسى هذا العالم الحديث كل ما له صلة بالقيم الوطنية والسياسية والقومية والإرث الثقافى».
‎هذه هى الفكرة التى تتردد بكثرة على صفحات وسائل التواصل الاجتماعى، بل وبعض وسائل الإعلام التقليدى ويعتقد أصحاب هذه الأفكار أن النظريات السياسية  الجميلة التى صاغت القضايا وصنعت التاريخ وشغلت النخب والمفكرين وحركة المجتمعات اختفت لصالح حياة البزنس والربح والخسارة والتجويع والبيع والشراء والحصار.
‎ويختم أصحاب هذه الرؤية بالقول إن الاتجاه الجديد الفاقد للقيم الإنسانية يلاقيه الذكاء الاصطناعى الذى ألغى الحس فى التفكير لصالح الغش والتزوير.
‎الكلام السابق لا يخص شخصا أو مجموعة أو حتى بلدا عربيا واحدا، ولكنه يسرى كالنار فى الهشيم، ويمكنك أن تسمعه على المصاطب وأنصار حزب الكنبة وبعض خطباء دور العبادة، وصولا إلى بعض الإعلاميين والسياسيين. وهذا الكلام يجد هوى شديدا لدى الناس العادية فى العديد من الشوارع العربية.
‎لكن وإذا دققنا النظر فى هذا الكلام فقد نجد مفاجآت تنسفه من أساسه.
‎ ترديد هذا الكلام الآن يعنى أننا قبل سنوات أو حتى عقود قليلة كنا نعيش فى المدينة الفاضلة على مستوى العالم. والسؤال: هل هذا صحيح؟!
‎بالطبع الإجابة هى: لا قاطعة، لكن المشكلة أن عددا كبيرا من الناس فى كل زمان ومكان يحبون البحث عن شماعة جاهزة، واعتقادات تسهل لهم ما لا يجهد عقولهم.
‎ولا يخفى على أحد أن بداية ترديد وانتشار هذا الكلام جاء مع عودة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب للبيت الأبيض. وكأنه فى المرة الأولى ٢٠١٦ ــ ٢٠٢٠ كان يحلق بأجنحة فى عالم الملائكة الفردوسى!
‎وقد يقول البعض: ولكن نحن نقصد عصر ما قبل ترامب. والإجابة هى نفسها، فالذى جاء بعد ترامب كان جو بايدن الديمقراطى الذى فتح للعدوان الإسرائيلى كل خزائن المال وكل مخازن السلاح، وكل أنواع الفيتو فى الأمم المتحدة حتى يدك غزة تماما.
‎وكان هناك  باراك أوباما، ورغم أنه كان معتدلا نسبيا مقارنة ببايدن وترامب، إلا أن جوهر سياسات بلاده لم يتغير. فلم يوقف تصدير السلاح لإسرائيل وتقديم كل أنواع الدعم. قبلهما كان جورج بوش الابن الذى دمر أفغانستان والعراق فى عهد «المحافظين الجدد» الأكثر صهيونية من إسرائيل. وقبل كل هؤلاء فإن كل رؤساء الولايات المتحدة انحازوا دوما لإسرائيل على حساب الحقوق العربية.
‎لا أريد فقط أن أدلل على صحة كلامى عبر استعراض سياسات الرؤساء الأمريكيين السابقين، ولكن ما لا يدركه كثيرون هو أن العالم يقوم بالأساس على منطق المصالح ومنطق القوة، بل وفى مرات كثيرة على منطق الغابة. قد تتحسن الأمور فى بعض الفترات القليلة نحو الهدوء والاستقرار، لكن هذا تغير فى الدرجة، وليس فى الجوهر.
‎وحتى لا نظلم ترامب، فإنه لم يكن هو من اخترع فكرة التهديد بفتح أبواب الجحيم على خصومه وأعدائه، بل إن ذلك يحدث منذ بدء الخليقة وأغلب الظن سوف يستمر إلى قيام الساعة.
‎من يتأمل تاريخ البشرية، ومن يقرأ ملحمة قصة الحضارة، لـ«ول ديورانت» ومن يقرأ «صعود وسقوط الامبراطوريات»، لبول كيندى، وغيرها من الكتب التى تناولت الصراعات الكبرى، عبر التاريخ سوف يكتشف بسهولة أن الإمبراطوريات الكبرى قامت بالأساس على منطق القوة الغاشمة وليست الناعمة، وآخر إمبراطورية كانت البريطانية التى وصفها البعض بأنها «لا تغرب عنها الشمس»، تأسست بالفتوحات العسكرية وبالاحتلال العسكرى المباشر، والأمر نفسه ينطبق على الإمبراطورية الفرنسية، فرغم أن نابليون بونابرت جاء بالمطبعة والعلماء، إلا أن عدته الأصلية كانت القوة العسكرية.
‎إسرائيل نفسها تم زرعها بالقوة الغاشمة منذ وعد بلفور عام ١٩١٧، مرورا بالنكبة عام ١٩٤٨ ونهاية بالعدوان المستمر منذ ٢٠٢٣.
‎كل الإمبراطوريات الكبرى تقوم على القوة الخشنة، ولكن بعضها يجمل ذلك ببعض القشور الإنسانية أو العلمية والدعاوى والتبريرات الأخلاقية.
‎وقد رأينا أن كل مساحيق التجميل سقطت عن وجه العديد من الحكومات الغربية التى بررت ودعمت العدوان الإسرائيلى الأخير.
‎الخلاصة، أننا لا نعيش فى «المدينة الفاضلة» بل فى عالم تحكمه بالاساس القوة الشاملة.

عماد الدين حسين  كاتب صحفي