مراجعاتٌ في فِقْه العلاقات الدولية - محمد عبدالشفيع عيسى - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 12:08 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مراجعاتٌ في فِقْه العلاقات الدولية

نشر فى : الجمعة 19 نوفمبر 2021 - 9:55 م | آخر تحديث : الجمعة 19 نوفمبر 2021 - 9:55 م
توحى إلينا التطورات الأخيرة فى العلاقات بين الدول على المستوى الإقليمى و«الأقاليمى» والعالمى، بأفكار شتّى متناثرة، تتأرجح يمنَة ويسرة لا تستقر على قرار مكين. لكن جوهرها فى حاجة ملّحة إلى مراجعة ما هو متواتر فى أدبيات السياسة الدولية منذ سنين، وخاصة فى حقبة «ما بعد الحرب العالمية الثانية»، ليس فقط على امتداد ما يسمى بمرحلة ما بعد الحرب Postــ War era ولكن على الامتداد الأشدّ طولا حتى الآن.
فى ضوء ما نراه بأمهات عيوننا هذه الأيام، على الصعيد العربى ومناطق الجوار، أمرٌ يشى بالعجب العجاب، من العجز المُزْرِى لما يسمونه «المجتمع الدولى..!» إزاء أزمات ليست بمستعصية فى حد ذاتها، مثل أزمة «السدّ الإثيوبى»، إلى العجز عن معالجة جراح مفتوحة أمام الناظر إليها من كل باب، كما هو الحال فى العراق وسوريا واليمن وليبيا وكذلك لبنان.. إلى غير ذلك. ولا نذكر «أم الأزمات المستعصية»، أى القضية الفلسطينية التى أعْيَت من يحاول الاقتراب من أى مدخل (معقول) بل و(واقعى)، ولا نقول «حقّانىّ» لمأساة الشعب الفلسطينى البطل، فى مقاومته منذ سبعين عاما ويزيد، لتداعيات مشروع من مشاريع «العصور الوسطى» من أجل إقامة كيان سياسى مستحدث على أنقاض كيان سياسى قائم عريق، بدعوى «الدولة القومية للشعب اليهودى»..!. وبدلا من محاولة الحل، تجرى محاولات لتعميق المشكلة الفلسطينية هنا وهناك، حتى بين ظهرانى الوطن العربى الكبير، تحت «لافتات» مختلفة دون وجل..! هذه «مأساة العصر» كما قال البعض منا. وإنْ لم توجد لها أشباه ونظائر فى عالمنا وعصرنا، فإن أوجه شبه قائمة بين «المأساة الأم» ومآسٍ غيرها أصبحت عابرة للزمن عبر عقود على الأقل، كما فى حالة «الصومال» الجريح.
•••
إزاء هذا كله، يتحدث خبراء العلاقات الدولية بكلمات منمقة (علميا) حول ما يسمى أحيانا (النظريات المتضاربة فى العلاقات الدولية)..! ويقولون إن هناك من هذه النظريات ما يسمّى، على سبيل المثال، بالمدرسة «المثالية» بمعنى أن العلاقات بين الأمم تقوم ــ أو يجب أن تقوم ــ على المبادئ والمُثل العليا الموجِّهة للسياسات الخارجية، ويستدلون على ذلك بما يدعو إليه أصحاب «الاتجاه الليبرالى» فى الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية الأخرى، حول مثاليات السياسة الخارجية، فى أمريكا وأوروبا، انطلاقا من (حقوق الإنسان) و(حقوق المرأة) و(منع الإبادة البشرية). مثال ذلك، بعض ما جرى مؤخرا بمناسبة الأحداث المصاحبة للانسحاب الأمريكى من أفغانستان فى أغسطس 2021. ومثال ذلك أيضا ما جرى من قبل، فى أوائل وأواسط التسعينيات المنصرمة، حين تم تدخل (حلف الأطلنطي) فى حروب البلقان وخاصة فى «يوغوسلافيا السابقة» ــ وبصفة أخص فى البوسنة وصربيا وكوسوفو ــ تحت مسمّى «التدخل الإنسانى».. وما هى إلا تصرفات انتقائية الطابع يحكمها المنطق العارى للمصلحة، بمعناها الضيق، للتحالف الغربى وأعضائه على اختلافهم.
وقلْ مثل ذلك أيضا عن الذى جرى بمناسبة الغزو الأمريكى للعراق واحتلاله عام 2003، ثم ما جرى من تدخلات القوى الغربية الكبرى، وبعض القوى العربية (الصغرى والمتوسطة بالمعايير الإقليمية) فى كل من سوريا وليبيا بعد أحداث 2011. لذلك يحاجّ فريق مقابل من خبراء العلاقات الدولية بأن مثل هذه التصرفات لا تستند إلى المدخل المثالى ولكن إلى المقترب (الواقعي)، معرّفا باعتباره «المصلحة القومية»، وأن هذا ما قال به (مورجنثو) منذ أربعينيات القرن المنصرم فى كتابه المعروف (السياسة بين الأمم).
وآخرون يقولون بالمدخل (الاستراتيجي) حيث استراتيجية المنافسة والتنافس والتنافسية والقدرة التنافسية للأمم (مايكل بورتر).. وآخرون يتحدثون عن «المدخل السوسيولوجى» للعلاقات الدولية، حيث تكمن أهمية الأبعاد الاجتماعية ــ الثقافية للعلاقات بين الدول، وبين «الفاعلين من غير الدول» مثل الجماعات العشائرية والقبلية والقروية وذات الطابع الدينى أو القائمة على التنوعات الثقافية... إلخ.
وآخرون يتكلمون عن مداخل نظرية ليست بنظريات فى حقيقتها ولكنها أقرب إلى أن تكون بمثابة «مقتربات للبحث»، مثل «معالجة الصراعات الدولية» و«تسوية النزاعات». كما يحاول بحّاثة كُثُر فى الفترات الأخيرة التركيز على ما يسمى «ما بعد Post» مثل «ما بعد السلوكية» و«ما بعد الاقتصاد السياسى».
كل هذا الضباب الكثيف من (النظريات المتضاربة فى العلاقات الدولية) ربما يؤدى وظيفة «التعتيم» على كثافة العلاقات الحقيقة فى عالمنا وعصرنا. تلك العلاقات لا تقوم على مبادئ ومُثل عليا منتزعة من سياقها، أو مجرد مصالح «مُعممة» أو اجتماعيات وثقافيات متنوعة، أو استراتيجيات جزئية وقطاعية.
وكما تحدث سمير أمين عن «علاقات الاستغلال الطبقى» المعتمة فى النظام الرأسمالى الحديث، مقارنة بالعلاقات تلك «الشفّافة» فى العصور القديمة والوسطى، فكذلك يمكن لنا على سبيل التناظر أن نتحدث عن العلاقات الدولية المعتمة فى عصرنا الراهن، مقارنة بالعلاقات الدولية «الشفافة» فى عصور خلت (كالعصور الوسطى) حين كان الاستعمار («الاستخراب» بتعبير لغوى أدقّ) هو النهج السائد فى العلاقات بين الكيانات القوية فى العالم والكيانات الضعيفة والأقل قوة. وكذلك كان الحال فى العصور القديمة «قبل الاستعمار»، وإن شئت فقل: قبل الرأسمالية، فالاستعمار قرين الرأسمالية على كل حال.
وما العتمة المظلمة للعلاقات الدولية الراهنة، إلا نتيجة لكثافة المبادلات الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والثقافية التى يديرها المركز الرأسمالى المعاصر، فى أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية خاصة، وتكمن من وراء جبالها الثقيلة أشباح الاستغلال والمظالم على المستويين العالمى وما دون العالمى.
فلنقُمْ إذن بإزالة العتمة عن طريق استنطاق الشفافية، من خلال نزع الأقنعة، وتعرية الأقانيم، عبر البحث العلمى الصحيح.

•••
نقطة أخرى تتصل اتصالا وثيقا بما سبق. إن عصر «اللا تكافؤ المُعْتِم المعمّم» فى العلاقات الدولية يَسِمُ بمَيْسِمه جميع العلاقات بين الدول والأمم، حتى تلك العلاقات التى تديرها دول وأمم غير رأسمالية فى الجوهر، مثل الصين وروسيا حاليا. فهاتان الدولتان لا تفعلان، وربما ليس فى مكنتهما أن تفعلا، إلى حدّ معيّن، سوى الامتثال لقواعد «السوق الرأسمالية العالمية»، أى «تجارة المصالح مع الدول الأخرى» ــ بدرجات مختلفة ومتفاوتة نعم.
قد تقوم هاتان الدولتان مثلا ــ الصين وروسيا ــ بانتهاج سياسات «أفضل» من دول العالم الرأسمالى المركزى، حيث قد تقترب من لغة «تبادل المصالح» و«تقاسم المنافع» فى أبعاد وأعماق أكثر اتصالا ببعض احتياجات الدول (النامية) وخاصة فى الإمداد بالحاجات الأساسية، وإقامة قواعد صناعية وتكنولوجية «عميقة».
قد يحدث ذلك، ولكن ليس معناه أن هاتين الدولتين ــ الصين وروسيا كمثال ــ تديران سياساتهما الخارجية منفّكة تماما من الأسس الانقسامية الصراعية للنظام العالمى الحاضر. لذلك، لا يغرنّك حديث معسول يديره فريق من باحثى العلاقات الدولية حول تحوّل متوقع أو منتظر فى الأسس الناظمة للعلاقات الدولية: انتقالا من الوضع الحالى حيث هيمنة «القوة العظمى الوحيدة» إلى وضع مستقبلى على أساس «تعددية المراكز: PolyــCentrism أو على أساس (اللاقطبية NonــPolarity).
إن مثل ذلك التحول، وإن أدّى بالإمكان إلى تحسينات جزئية متفرقة هنا وهناك فى أداء المنتَظم الدوليّ، فإنه لن يمكن أن يفيد حقّا فى إصلاح جذرى لأحوال البشرية المعذبة، إن لم يرافقه إصلاح الحال على مستوى «التكوين الاقتصادي ــ الاجتماعى» بالذات.
بعبارة أخرى، إنه طالما استمرت هيمنة الرأسمالية المركزية العالمية بصورتها الحالية أو (المحسّنة جزئيا)، فلن يحدث الإصلاح الجذرى المنشود فى هياكل ومسارات العلاقات الدولية. لا يعنى ذلك أن إقامة منظومة عالمية كاملة خارج الرأسمالية، وبعيدا عن أنماط العلاقات الاستغلالية عموما، علاقات الهيمنة، تقع فى متناول اليدين أو فى الأفق المنظور. إنما تلك مهمة تاريخية بالغة التعقيد قد تأخذ عشرات كثيرة من السنين، بل وقال البعض: مائة سنة أو مائتان، إن توافرت المقومات الكفيلة بتحقيق «التحول ــ الحلم» المنتَظر.. ولكنه السعى الدءوب لتغيير وجهة العالم صوب كون أكثر إنسانية حقا، على صعيد العلاقات بين البشر فى كل جماعة ومجتمع، وذلك بما يعكس فرقا جوهريا ــ ربما ــ فى (تكوين) وفى أداء (الإنسان) وعلاقته بأخيه الإنسان. ومن ثم يحدث الفرق فى نمط العلاقات بين أولئك البشر وبين الطبيعة المتحجرة الصمّاء التى لا تنطق. ولو نطقت تلك الطبيعة لقالت: هوْنا علينا.
إن التغير البيئى والمناخى والمجتمعى الجارى، من جرّاء ظلم الإنسان لمحيطه الطبيعي ــ الاجتماعى، وظلم الإنسان لأخيه الإنسان من قبل، لهُو كفيلٌ، لا قدّر الله، بإمكان زوال هذا الكون كله، قسْرا، عمّا قريب..!
فهل يعتبرون..؟
محمد عبدالشفيع عيسى أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية
التعليقات