«ذلك المريض».. أطباء تعلموا من مرضاهم! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:57 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«ذلك المريض».. أطباء تعلموا من مرضاهم!

نشر فى : السبت 19 نوفمبر 2022 - 8:40 م | آخر تحديث : السبت 19 نوفمبر 2022 - 8:40 م
فكرة هذا الكتاب المترجم طريفة ومبتكرة، ومادته ثرية ومؤثرة، ويمكن أن تكون موضوعًا لحلقات درامية؛ لأنها تدور حول العلاقة بين الطبيب ومرضاه، ليس من مجرد زاوية التشخيص والعلاج، وتأثير الطبيب على المريض، ولكن من زاوية عكسية، أى كيف يمكن أن يغير مريض واحد، يمكن اعتباره مجرد حالة عابرة، رؤية ومسار حياة الطبيب؟ وكيف يؤثر المريض على من يقدِّم له العلاج؟
الكتاب الصادر عن دار العربى بعنوان «ذلك المريض»، من ترجمة نهال نور، واستلهمت مؤلفته الصحفية الهولندية إلين دى فيسر فكرة كتابها المميز من واقعة شخصية، ففى جنازة زوج شقيقتها، الذى توفى بالسرطان، فوجئت بحضور طبيبه الخاص، الذى قال لها إنه تعلم الكثير من المريض الراحل، فاندهشت كثيرًا، لأن ما تعرفه أن الطبيب هو الذى يؤثر فى حياة المريض، هنا قررت إلين أن تختبر فكرة جديدة: ماذا لو اختارت عدة أطباء، وسألتهم عن مريضٍ واحد يتذكرونه، علّمهم شيئًا لا ينسى، أو غيّر حياتهم؟
المفاجأة أن الأطباء رحبوا بالحديث التفصيلى عن تجاربهم، وكأنهم كانوا ينتظرون من يسألهم، فبدأت الصحفية الهولندية فى نشر أعمدة تحمل هذه الحكايات والتجارب، وكان رد فعل القراء عظيمًا، وكأنهم أيضًا كانوا ينتظرون هذه الحكايات، بل إن بعض أقارب أصحاب القصص أرسلوا تعليقاتهم، وهكذا تبلورت صورة علاقة خاصة يتعلم فيها الطبيب من مريضه، ويفهم مهنته ووظيفته من خلال المريض بشكل أفضل وأعمق.
تطورت الفكرة أيضًا لتشمل تخصصات مختلفة، ولم تقتصر فقط على الأطباء، ولكنها امتدت إلى الممرضين والمسعفين والأخصائيين الاجتماعيين فى المستشفيات، فأصبح لدينا كتاب كامل يؤكد أن كل طبيب لديه قصة عن مريضٍ لا ينساه، وكل واحد يشرح الدرس الذى استفاده من مريضه، ويكتشف شيئًا جديدًا، ومختلفًا، وينقل هذه الخبرة لكل من يتعامل مع المرضى.
يمكن اعتبار تلك الحكايات مادة لقصصٍ قصيرة فريدة، تذكرنا بكتابٍ أصدره الراحل د. إبراهيم ناجى بعنوان «أدركنى يا دكتور»، عن حكاياته الغريبة والطريفة مع المرضى، ولكن كتاب «ذلك المريض» يترك السرد لكل طبيب فى صفحتين ونصف تقريبًا، لكى يقدم الحكاية بتفاصيلها، على أن تنتهى كل حكاية بما تعلمه الطبيب من مريضه، كما أن الكتاب يتعرض فى بعض حكاياته إلى مسألة «الموت الرحيم» التى تعطى المريض الحق فى أن ينهى حياته بمساعدة الطبيب، وهو أمر مشروع فى هولندا، ولكن وفق شروط خاصة، منها أن تكون حالة المريض غير محتملة، وميئوس من شفائها، وأن يؤكد ذلك طبيب آخر غير طبيب الحالة، وبعد فحوصات محددة، وتقول مؤلفة الكتاب إن 4% من حالات الوفاة فى هولندا تتم بطريقة «الموت الرحيم»، والكتاب يتضمن بعض هذه الحالات التى طلب فيها المريض أن يتخلص من آلامه، وأن يموت، بمساعدة الطبيب.
تتنوع القصص الغريبة تنوعًا كبيرًا، وتقدم ملامح عامة عن مهنة شديدة الصعوبة، وأبرز ما فى الحكايات أنها تعيد تأسيس العلاقة بين المريض والطبيب، وتغير القاعدة التى ينصحون بها الأطباء، بألا يعبروا عن مشاعرهم، وبأن يتعاملوا مع مرضاهم، بوصفهم مجرد حالات، وبأن تكون العلاقة المهنية محصورة فى التشخيص، وكتابة الروشتة والمتابعة.
القصص ودروسها تقول عكس ذلك، فالعلاقة الإنسانية مع المريض أساسية، بل إنها جزء من العلاج، وهناك قرارات لا يمكن اتخاذها إلا بمعرفة ظروف المريض، وتفصيلات حياته، وكل حالة تقريبا لها ملابساتها، والمريض هو الأقدر على التعبير عما يشعر به، مهما كانت قوة الأجهزة والتحليلات، بل إن رأيه فى طريقة العلاج أساسى فى تحقيق التقدم والشفاء، وشجاعة المرضى فى مواجهة أمراضهم أمر ملهم واستثنائى، ويغير الكثير من النتائج، وهناك دوما مساحة للمفاجآت، بل والمعجزات غير المتوقعة، فليست المسألة عملية حسابية، ولا هى مجرد تطبيقات جامدة لقواعد موجودة فى الكتب والمراجع.
يقول أحد الأطباء: «على الأطباء الإنصات لمرضاهم، فتسعة وتسعون بالمائة من الوقت هم يقدمون لك التشخيص الصحيح، وما عليك إلا استيعابه»، ويقول آخر بعد سرد حكاية مع مريضه: «تقع مهنتنا بين شقى رحى الحياة والموت، والآن أرى بوضوح كيف يمكن لتلك التجربة أن تكون أجمل التجارب جميعا»، ويقول ثالث تعلَّم من مريضه: «كنت أحكم على الآخرين أيضًا بشكل متسرع فى حياتى العادية، ولكن أصبحت أقل حدة فى أحكامى الآن»، ويقول طبيب رابع: «الحقائق نفسها ليست أهم شيء، بل ما تعنيه للمريض، وما زلت أذكر هذا الدرس إلى اليوم».
فى الكتاب حكايات مؤثرة عن مريض فى لحظاته الأخيرة أسعدوه بمشاهدة حفيده القادم من خلال جهاز السونار، عن طبيبة أورام فوجئت بإصابتها بالسرطان، فعرفت مشاعر المريض، عن حوادث عادية تكشف فى النهاية عن جرائم قتل، عن مريضة شجاعة تحملت آلام إصابتها بمرض خطير فى الدم، رافقها منذ الطفولة، ولكنها صمدت وتزوجت، وأنجبت طفلة، أصدرت كتابا، وصارت ملهمة للمريضات، عن طبيب أخطأ فى بداية حياته المهنية، وتعلم من هذا الخطأ، عن رجل يبدو سليمًا، وبكامل صحته، حتى يكتشف الجميع أنه ظل يتعذب بسبب ذكريات الحرب التى خاضها، كان الجسد معافى، ولكن الروح ميتة، ولكن أحدًا لم يسأله أبدًا ليعرف طبيعة معاناته.
هناك حكايات عن أطفال وعجائز، عن بشر فى لحظات صعبة، عن أهمية التواصل مع المريض، وحدود العلاقة معه، عن الروح المرحة فى التعامل، وأهمية الأمل، عن ضرورة منح الفرصة للمحاولة، والاستماع إلى قرار المريض واحترامه، وهناك أيضًا معنى التعلم المستمر، وضرورة وجود الثقة كأساس للتعامل، ولتقبل العلاج.
هذه حكايات نجحت فى تغيير حياة كل طبيب أو معالج، وأعتقد أيضًا أنها قصص مؤثرة ستغير نظرة حياة أى قارئ للمرض وللعلاج، وربما تؤسس لنظرة أكثر عمقا لمعانى الألم والفقد والموت.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات