هل صحيح أن الاقتصاد المصرى يعانى من انخفاض نسبة المكون المحلى فى أغلب قطاعات الإنتاج، وأن هذا الانخفاض مسئول عن الارتفاعات المتتالية التى شهدتها الأسعار أخيرا، وأنه يتعين على صانع السياسة الاقتصادية تبنى استراتيجية تعمل على زيادة تلك النسبة فى القطاعات الإنتاجية المختلفة، فى حالة رغبته التصدى لمشكلة ارتفاع الأسعار؟
قبل الشروع فى الإجابة عن هذه الأسئلة، فإننا نقصد بالمكون المحلى: حصة عناصر الإنتاج المحلى فى الأنشطة الإنتاجية المختلفة. فيرتفع ذلك المكون عندما تزيد حصة العمالة والموارد الطبيعية ورأس المال والتكنولوجيا الوطنية إلى جملة عناصر الإنتاج المستخدمة. وبناء على هذا التعريف فإن الاقتصاد المصرى يعانى من انخفاض واضح فى نسبة المكون المحلى فى أغلب أنشطة قطاعى الصناعة والخدمات، إذ تتركز هذه النسبة بصفة أساسية فى عنصر العمل وبدرجة أقل فى الموارد الطبيعية. أما باقى عناصر الإنتاج فهناك دلائل عديدة على ارتفاع نسبة المكونات المستوردة فيها، سواء كسلع نصف مصنعة مستوردة أو التكنولوجيا وحقوق الملكية الفكرية أو أنظمة الإدارة المملوكة للأجانب.. الخ.
هذه لمحة سريعة عن حالة المكون المحلى فى أغلب قطاعات الاقتصاد المصرى حاليا، فماذا عن علاقته بارتفاع الأسعار؟
إن القفزة الشديدة التى حدثت أخيرا فى المستوى العام للأسعار يمكن إرجاعها بصورة مباشرة لثلاثة مسببات رئيسية، أولها السياسات الضريبية الجديدة، باستحداث ضريبة على القيمة المضافة (14% ابتداء من العام 2017/2018 ) بديلا عن ضريبة المبيعات (10%) وبزيادة التعريفة الجمركية على بعض الواردات، وثانيها تحرير أسعار الطاقة ورفع الدعم الحكومى عنها، وثالثها هو تحرير سعر الصرف للجنيه المصرى.
على أنه قد زاد من حدة تلك القفزة انخفاض نسبة المكون المحلى وزيادة نسبة المكونات المستوردة فى النشاط الاقتصاد المصرى. ذلك لأن ارتفاع التعريفة الجمركية وانخفاض قيمة الجنيه بعد تحريره فى سوق الصرف، يتسببان مباشرة فى زيادة أسعار مدخلات الإنتاج الوسيطة المستوردة التى تدخل فى عملية الإنتاج، ناهيك عن دورهما فى زيادة أسعار المنتجات النهائية المستوردة.
ولنأخذ هنا نشاط تجميع السيارات كمثال واضح على ما نقول، فانخفاض نسبة المكون المحلى «الحقيقى» فى هذا النشاط وزيادة المدخلات المستوردة من أجزاء السيارة، تسببت فى زيادة أسعار السيارات المجمعة محليا بعدما تحرر سعر الصرف. وبمنطق آخر، لم تغن نسب المكون المحلى بوضعها الراهن من تقليل أثر انخفاض قيمة الجنيه على أسعار السيارات المجمعة محليا. وما ينطبق على نشاط تجميع السيارات ينطبق، بدرجات متفاوتة، على كل الأنشطة الصناعية والخدمية التى ترتفع فيها نسب المكون المستورد وتقل، فى المقابل، نسب المكون المحلى فيها.
لسنا فى حاجة للتأكيد على أنه كان من الممكن تجنب الزيادة السعرية الناجمة من انخفاض نسبة المكون المحلى إذا كانت السياسة الصناعية المصرية أخذت على عاتقها صياغة آليات متطورة تحفز زيادة هذه النسبة تدريجيا، ودون الاقتصار على المراحل التجميعية البسيطة.
***
إن التحليل السابق يكشف عن حقيقة أساسية مفادها أن ارتفاع الأسعار فى السوق المصرية أخيرا يرجع فى جانب مهم منه لانخفاض نسبة المكون المحلى فى النشاط الاقتصادى، كما يوضح أن أحد معايير الحكم على فاعلية السياسات الاقتصادية فى مكافحة التضخم هو مدى قدرتها على زيادة نسبة المكون المحلى فى النشاط الاقتصادى.
وأيا كان الأمر، فيمكن للسياسة الاقتصادية أن تنجح فى زيادة نسبة المكون المحلى فى النشاط الاقتصادى إذا نجحت فى:
أولا: زيادة الروابط الأفقية والرأسية بين قطاع الزراعة من جهة وبين قطاعى الصناعة والخدمات من جهة ثانية. إذ إن هذا الربط هو الكفيل بزيادة نسبة مدخلات الإنتاج المحلية فى أنشطة الصناعة والخدمات المختلفة.
ثانيا: رسم سياسة ضريبية تميزية للأنشطة الصناعية والخدمية التى تزيد من نسبة المكون المحلى الحقيقى، مع ضرورة توافر آلية للحساب الدقيق لتلك النسبة، كى لا تقع تلك السياسة فى نفس الخطأ الذى وقعت فيه سابقا عندما منحت تفضيلا ضريبيا للأنشطة التى لا تزيد تلك النسبة حقيقيا.
ثالثا: منح القطاع العام الصناعى والخدمى أهمية إضافية تمكنه من زيادة نسبة المكون المحلى فى أنشطته، حتى لو اقتضى الأمر الربط بين مكافآت مجالس إداراته وبين التطور فى تلك النسبة.
رابعا: لا يجوز أن نغفل أهمية الربط بين أنشطة مراكز البحوث الوطنية وبين الاحتياجات الملحة لقطاعى الصناعة والخدمات، حتى لو تطلب ذلك وضع دراسات المكون المحلى على رأس أولويات تلك المراكز البحثية، كى يمكن تحديد أنسب الطرق العلمية لزيادة نسب المكون المحلى فى الاقتصاد المصرى.
***
صفوة القول، وفى ضوء الجهود الحكومية المبذولة لمحاصرة ظاهرة التضخم، فإننا نعتقد أن رسم استراتيجية وطنية تستهدف زيادة نسبة المكون المحلى فى النشاط الاقتصادى هى أهم تلك الجهود قاطبة!