السيسي والمحور الروسي الجديد - إيهاب عمر - بوابة الشروق
الثلاثاء 21 مايو 2024 8:01 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السيسي والمحور الروسي الجديد

نشر فى : الأحد 20 أبريل 2014 - 8:45 م | آخر تحديث : الأحد 20 أبريل 2014 - 8:45 م

عام 1769 حدث أمر جلل في روسيا، أذ أمرت كاثرين الثانية (كاثرين العظيمة) إمبراطورة روسيا القيصرية أسطولها بالتوجه إلى سواحل شرق البحر المتوسط، من أجل دعم ثلاثة أنظمة حاكمة مارقة عن الخلافة التركية العثمانية، وذلك في إطار الصراع «الروسي العثماني» وقتذاك.

كان الرسل الروس والإنجليز قد دعموا الأنظمة الثلاثة، وهم:

1- علي بك الكبير في مصر الذي مدد حكمه للحجاز وأصبح لقبه سلطان مصر وخاقان البحرين.

2- ظاهر العمر في شمال فلسطين ودمشق.

3- ناصيف النصار في جنوب لبنان.

أيدت إنجلترا الحملة العسكرية الروسية على شرق المتوسط، إذ كانت نظرية لندن وقتذاك هي استغلال روسيا لمناوئة الأتراك في المشرق، كما أن روسيا بيدها الورقة الأرثوذكسية في الشام بحكم عراقة الكنيسة الروسية، ما يجعلها قادرة على مناوئة الورقة المارونية والكاثوليكية بيد فرنسا.

وصل الأسطول الروسي إلى سواحل مصر والشام عام 1772، ولكن نظرا لتعقيدات المشهد المصري كان هنالك صعوبة في التدخل المباشر في العمق المصري، فاكتفى الروس بإرسال المال والعتاد لعلي بك الكبير، في محاولته لجم تمرد محمد بك أبو الدهب بلا جدوى.

أدرك الروس وقتذاك أنه يجب أن يتم العمل على الأرض، وبعد ضياع مكاسب الجبهة المصرية، قام الروس بإنزال عسكري في الشام، وتحديدا في بيروت، بينما الأسطول الإنجليزي يراقب كل ما يحدث ويباركه نكاية في العثمانيين والفرنسيين، واحتلت روسيا بيروت ما بين عامي 1772 و1774 في سابقة هي الأولى والأخيرة حتى يومنا هذا؛ أن تحتل روسيا أراضٍ عربية.

انسحب الروس بعد أن دعموا الأرثوذكس في صراعاتهم الداخلية في الشام، وفتحوا أسواق تجارية مهمة للبضائع والتجارة الروسية في مصر وعموم الشام، والأهم أن الحملة أظهرت للمرة الأولى مدى احترام روسيا لمكانة مصر، ورغبتها في أن يكون لها صديق في بالقاهرة لا يناهض دورها الدولي.

النفوذ الروسي المتزايد في شرق المتوسط وتحديدا مصر والشام كان العامل الأول في رؤية باريس لحتمية غزو تلك المنطقة، وحتى بعد الثورة الشعبية الفرنسية ظل هذا الأمر هدفا استراتيجيا للفرنسيين ونفذته عبر إرسال نابليون بونابرت على رأس الحملة الفرنسية.

•••

عام 1805 الضابط المقدوني من أصل ألباني محمد علي باشا يصعد على عرش مصر بمباركة الأزهر، وسيطر على حكمها وانطلق لكي يصنع مشروعه التاريخي، ولعل البعض ينظر إلى هذا المشروع على أنه يحظى بمباركة روسية على اعتبار أن محمد علي بدأ في هدم الدولة العثمانية العدو العتيد للروس القياصرة وقتذاك، ولكن كتب التاريخ تحمل لنا رؤية استراتيجية تؤكد مدى حنكة الروس في عالم السياسة، إذ نظر القياصرة إلى أن محمد علي أشد خطرا عليهم من الترك العثمانيين؛ لأن إمبراطورية إسلامية جديدة مركزها مصر قادرة على أن تحكم العالم. بينما ما سبق من إمبراطوريات إسلامية نابعة من مكة أو دمشق أو بغداد تظل لا تحظى بمزايا أن يكون قلبه ومركزه مصر، حتى لو سيطر على مصر، فهنالك فارق بين أن تكون مصر مجرد ولاية وأن تكون عاصمة تلك الإمبراطورية الإسلامية.

ثم إن الروس جن جنونهم لسبب آخر؛ وقتذاك كانت المقاومة في القوقاز قد أعلنت الإمارة القوقازية متضمنة ما يعرف اليوم بــ"الشيشان وأنجوشيا وداغستان"، وقد راسلت الإمارة القوقازية حاكم مصر لكي ينصرهم وأن يتم اعتبار الإمامة القوقازية تحت الحكم المصري، فإذا بحاكم مصر يرد عليهم برسول وصل القوقاز عام 1840، حاملا ًخطابا مختوما بالخاتم الملكي لـ"محمد علي"، يكلف فيه الإمام شامل الداغستاني بالاستمرار في قيادة الإمامة القوقازية، وأن الجيش المصري حينما ينتهي من إسقاط الآستانة التي تركتهم للروس بلا دعم، سوف يقوم الجيش المصري فورا بالزحف على القيصرية الروسية، لنجدة المسلمين في الفولجا والقوقاز، وإسقاط حكم الروس الغاشم.

نسى الروس خلافهم مع الأتراك، حينما وجدوا أن القوة المصرية الصاعدة لن تتوقف عند حدود العثمانيين، بل ينوي محمد علي غزو روسيا حينما ينتهي من تركيا، وهكذا أرسل القيصر الروسي نيكولاي الأول الأسطول الروسي إلى البوسفور وأجبر الأسطول المصري بقيادة إبراهيم باشا على وقف زحفه، ولما فشلت الوساطات الأوروبية وقتذاك، اتفق الروس والعثمانيون على أن يقوم الجيش الروسي بعملية انتشار عسكري فى قلب الآستانة عاصمة الخلافة الإسلامية، من أجل حمايتها من الغزو المصري، وبعد عقود من نعت السلاطين العثمانيين للقياصرة الروس بالكفرة والمشتركين، قبل العثمانيون الأجداد الأيدولوجيون لنجم الدين أربكان ورجب طيب أردوجان وعبد الله جول بـ(الكفرة والمشركين) في الآستانة عاصمة الخلافة خوفا من الجيش المصري.

•••

القاهرة 8 فبراير 2011، الرئيس محمد حسني مبارك في قصر العروبة يتابع فعاليات الثورة الجارية، خبرة السنين جعلته يدرك ما لم يدركه الكثيرون أمام المشهد الهادر، كلماته لن يكون لها قيمة الآن، أي شيء سوف يقوله سوف يحسب على أنه محاولة للتملص من تحقيق الهدف الذي أصبح مطلب الجموع الحاشدة.

هكذا وقبل بضعة أيام من التنحي، وافق مبارك على أن يقابل آخر مسئول أجنبي يقابله كرئيس للجمهورية المصرية، لم يكن مفاوضا أوروبيا أو صديقا عربيا، ولكنه كان المبعوث الروسي الخاص للشرق الأوسط السفير إلكسندر سلطانوف.

تنحى به مبارك جانبا، وأبلغه رسالة إلى بوتين، وفلاديمير بوتين فحسب، رئيس الوزراء الروسي وقتذاك، هكذا غادر سلطانوف القاهرة إلى موسكو واجتمع ببوتين مبلغا إياه آخر رسائل مبارك على الإطلاق. منذ فجر هذا التاريخ أصبح لبوتين رؤية واحدة موحدة عن الربيع العربي.

يثق الروس كثيرا في حسني مبارك، عرفوه جيدا حينما كان يدرس لديهم، ولكن عسكري مصري آخر سوف يكون له دور جديد في هذا النهج.

•••

أغسطس 2013، عقب بضعة أسابيع من ثورة 30 يونيو 2013، تصل طائرة الفريق أحمد شفيق إلى العاصمة الروسية موسكو في زيارة تكاد تكون سرية، ثورة 30 يونيو المصرية أشعلت الحرب الباردة الجديدة، فلا يتصور أحد أن دولة بثقل مصر سوف تكسر الإملاءات الأمريكية بالإبقاء على مرسي وسوف يستمر النظام العالمي بنفس النهج.

شيء ما انكسر للأبد، و لابد من دعم دولي للمعركة المقبلة، هرول الروس رغم برودة تحركهم إعلاميا، وهرول معهم الصينيون، وهكذا امتلكت القاهرة مساحات جديدة للمناورة، ولكن جس النبض في موسكو كان بحاجة إلى لقاء مباشر، على أن يكون غير رسمي، وقبل قائد سلاح الطيران الأسبق المهمة، وعقب زيارته لموسكو ببضعة أسابيع جرت المياه كالفيضان في مجرى العلاقات «المصرية الروسية»، وأوفد الروس وزيري الدفاع والخارجية إلى القاهرة لمقابلة قادة مصر الجدد.

هكذا، أسست مصر علاقة جديدة مع روسيا، في زمن زعيم روسي بقدر فلاديمير بوتين، وفى زمن فلول القوة الأمريكية على يد رئيس بتواضع باراك أوباما، ولكن ما هو مستقبل هذا التعاون، ومستقبل المحور الروسي الجديد.

في الواقع، إن العلاقات مع أمريكا لن تتحسن أبدا، مهما جرى سوف يظل هذا التوتر موجودا، فالديموقراطيون لن ينسوا لمصر أنها ساهمت في تركيع أسطورة أوباما، كما أن الديموقراطيين لن يستمروا في البيت الأبيض إلا عبر هيلاري كلنتون التي لا تختلف في سياساتها الخارجية عن باراك أوباما، والجمهوريون مثل راند بول وغيره من شباب الحزب يكملون مسيرة جورج بوش الابن المعاندة لدور مصري في الشرق الأوسط.

سوف تقوم أمريكا كل حين وحين بعرقلة المعونة الاقتصادية والعسكرية، بل ويمكن في مرحلة لاحقة حينما يهدأ إرهاب الإسلام السياسي أن نرى الصوت الإسرائيلي الخافت يتعالى بإيعاز من أمريكا خاصة لو وصل "المحافظين" الجدد للحكم مجددا.

وبالتالي تدرك مصر والمرشح الرئاسي عبد الفتاح السيسي لحقيقة أن التأسيس لعلاقة دائمة مع روسيا هو أمر حتمي، في ظل التنمر الأمريكي والرؤية الجديدة بأسلمة الأنظمة العربية من أجل الحرب الباردة الجديدة مع روسيا والصين.

وبلور السيسي رؤيته تلك سريعا قبل أن يتولى الرئاسة أو يترشح للانتخابات الرئاسية عبر زيارته لموسكو باعتباره وزيرا للدفاع، حيث تعتبر أهم زيارة لمسئول مصري إلى روسيا منذ خمسينيات القرن العشرين.

هكذا صنع السيسي وزيرا للدفاع ثم رئيسا للجمهورية- باعتباره المرشح الأوفر حظا- توازنا في السياسات الخارجية لم يصنعه مبارك، وتفتقده مصر منذ عقود، ويجعل أمريكا وأوروبا الغربية تحسب خطواتها جيدا فيما يتعلق بمصر، بعد أن كانت الأصوات قد تعالت في واشنطن الخريف الماضي لاتخاذ خطوات أثقل حيال جرأة مصر في تحدي القرار الأمريكي بإزاحة النظام الإخواني، هدأت تلك الأصوات، انتظارا لنتائج الجولة الجديدة من الحرب الباردة في أوكرانيا.

ولعل الحديث عن أوكرانيا، ينقلنا إلى الحديث عن مستقبل المحور الروسي الجديد، المشهد الآن يتحدث عن تحالف «روسي صيني» جديد، وعن قيام اتحاد مستقبلي بين روسيا التاريخية- أي ما يعرف اليوم بروسيا بالإضافة إلى بعض أقاليم أوكرانيا ورومانيا وبولندا، ما يشعل حربا اقتصادية بين الاتحاد الجمركي الروسي الذي يضم عددا من دول أوروبا الشرقية- ودول أوروبا الغربية والوسطي المتحالفين اقتصاديا داخل منطقة اليورو.

وجود مصر في المحور الروسي الجديد، يضمن لموسكو حماية مصالحها في الشرق الأوسط بجانب سوريا التي بدأت تخرج من كبوتها رويدا رويدا، ولم يكن ممكنا للروس قط أن يخوضوا مغامرات القرم وشرق أوكرانيا، والمغامرات المستقبلية في أوروبا الشرقية، ما لم يكن لديهم الصديق الوفي في دول بثقل مصر وسوريا، من أجل ألا يجد الدب الروسي نفسه محاصرا في المستقبل القريب بين مطرقة البلقان وسندان الشرق الأوسط.

التعليقات