فى عام 2011، أخذ بشّار الأسد، عبر اعتماده «حلًّا أمنيًّا» ضد انتفاضة شعبيّة، سوريا إلى حربٍ دمّرت ذهنيّات السوريين أكثر أهميّة من أعداد قتلاها ومهجّريها ودمار مدنها وقراها. وساهم «الخارج»، الذى طالب بعض المنتفضين حينها بتدخّله وحمايته، فى دمار الذهنيّات بدلًا من إنقاذ سوريا والسوريين. ثمّ هرب الأسد بعد أربع عشرة سنة من المظالم ليترك البلاد فى مهبّ رياح الجنون الإسرائيلى وفوضى الأطماع الخارجيّة وصراع المظالم والهويّات.
هكذا فرح السوريون جميعًا برحيل السلطة السابقة، إلا أن مهمة «إعادة إعمار الذهنيّات» نحو الوطنيّة والمواطنة المتساوية السوريّة ليست سهلة مع كلّ الدمار الذى حلّ بها، لأنّ «الحروب الأهليّة تترك ندوبًا أعمق ممّا تصل إليه السيوف»، كما قيل عن حروب يوغوسلافيا السابقة. وهذه المهمة تقع مسئوليتها على كاهل القائمين على الدولة الانتقاليّة، أى التى يجب أن تعمل على الانتقال إلى ترسيخ المواطنة والسلم الأهلى وإعادة النهوض، كما على فعاليّات المجتمع، لأنّه معروفٌ أنّ الحروب الأهليّة عادة ما تعود للتفجّر إذا لم تتمّ معالجة ندوبها.. بحكمة.
بالتأكيد لا يُمكِن إعادة بناء الأوطان بالمهرجانات الإعلاميّة وحدها، مهما كانت فخامة مشهديّاتها. بل يتمّ ذلك بخلق الثقة والتأكيد فعليًّا وليس قولًا فقط أنّ الدولة الانتقاليّة هى دولة جميع المواطنين دون تمييز، سواءٌ فيما تبنيه من مؤسّسات لخدمة هؤلاء المواطنين، بما فيها الأمن والجيش، أو فى كيفيّة التعامل مع المجتمع وحريّاته.. ومع مظالمه الموروثة من الحرب.
• • •
هذا يعنى أنّ شعار «من حرّر هو الذى يقرِّر» لا يأخذ بالضرورة إلى الاستقرار. بل على العكس، إذا كان من حرّر يعمل لجميع المواطنين فهو الذى يفتح رحابة صدره.. للمشاركة مع جميع فعاليّات المجتمع، مهما كانت مواقفها ومظالمها الموروثة من الحرب السابقة. تشاركيّةٌ لا تنتُج عن ضغوطٍ خارجيّة بقدر ما يجب أن تنتج عن حكمةٍ وطنيّة لإخراج البلاد من دمار الذهنيّات. ويعنى ذلك أيضًا أنّه لا معنى لحلّ الجيش السابق كليًّا بل احتوائه ضمن الجيش الجديد مع محاولة احتواء الفصائل المسلّحة الأخرى التى قاتلت ضدّه فى الحرب. ولا معنى أيضًا لحلّ جميع الأحزاب السياسيّة فى مرحلة انتقاليّة، لأنّ ذلك يترك المجتمع كى تؤطّره وحدها فعاليّات ما قبل الدولة. ولا معنى أيضًا لتفكيك فعاليّات المجتمع الأهلى الذى ساعد المواطنين على تحمّل المعاناة والعقوبات وبطش السلطة كى تستأثر جمعيّات «مجتمع مدنى» مدعومة خارجيًّا وحدها بالمشهد الاجتماعى بمجمله.
هذا خاصة أنّ سوريا لم تستعِد وحدتها بعد. ليس فقط مع شمال شرقها ومحافظة السويداء، بل أيضًا ضمن المناطق التى تسيطر عليها اسميًّا اليوم السلطة الانتقاليّة. إنّ تحدّى إعادة توحيد الأرض السوريّة له الأولويّة الآن، لا يُمكِن معالجته، بعد زمانٍ من ترسيخ الانقسام السورى، لا «بحلٍّ أمنى» ولا بحشد عصبيّات ما قبل الدولة ضد عصبيّات أخرى. لما يحويه الحلّ الأمنى وحشد العصبيّات من مخاطر إعادة اندلاع الحرب الأهليّة من جديد، ومن مخاطر تدخّلات إقليميّة ودوليّة لا ترى فى سوريا سوى أنّها تجمّعات طوائف ستستخدِم حجّة حمايتها لفرض نفوذها.
ولا فائدة من اتهام هذا وذاك بالاستنجاد بالخارج، فالكل يستنجد بـ«خارج» حقيقةً، بدل العمل على صون «الداخل». فى حين عرف آباء أهالى الشمال الشرقى، كما محافظة السويداء وغيرها من المناطق كيف فرضوا بدمائهم وحدة الأرض السوريّة على مستعمِر خارجى، والكلّ يعى أنه لا يُمكِن لأى من هذه المناطق اليوم أن تنفصل عن سوريا، لأن لا أفق لذلك لا اقتصاديًّا ولا اجتماعيًا.
• • •
صحيحٌ أنّ سوريا بحاجة إلى دولة مركزيّة قادرة، لأنّها وحدها القادرة على تأمين لا مركزيّة إداريّة بشكل صحيح تسهم فى ترسيخ التشاركيّة المجتمعيّة وفى معالجة المظالم والمطامع على السواء. لكنّ هيبة الدولة المركزيّة لا يُمكِن أن تُفرَض بالحديد والنار، مهما كانت الاستفزازات للهويّة الوطنيّة الجامعة الناتجة عن المظالم السابقة. إنّ المجتمع السورى بحكم تاريخه يحمِل هويّات متعدّدة، دينيّة وإثنيّة ومناطقيّة، وهويّته الوطنيّة الجامعة لا يُمكِن أن يُعاد ترسيخها سوى ببناء الثقة بين المجتمع، كلّ المجتمع، وبين الدولة، كمؤسّسات لا تميّز بين هويّات ما قبل الدولة. ويبقى بناء الثقة عسيرًا، ويحتاج إلى جهود كبيرة أبعد من حوارات رمزيّة، كما يحتاج حكمة ووقتًا. وتكمًن الصعوبة أنّ خطأ فى تعامل الدولة مع المجتمع يُمكِن أن يدمّر كل الجهود المبذولة خلال أشهر وسنين.
وفى ظل حساسية الوضع الاجتماعى فى سوريا بعد أحداث الساحل وتفجير الكنيسة فى دمشق وتعدّى متطرّفين على الحريات المدنيّة وطريقة تعامل السلطات مع العدالة الانتقاليّة، انفجرت أحداث السويداء على خلفيّة الفوضى الاجتماعيّة القائمة والحالة الاقتصاديّة السيئة التى تسببها وترافقها. وذهب التفجّر إلى حدٍّ أكبر مع تحويل جهود فضّ نزاع اجتماعى كان يُمكِن احتواءه إلى محاولة فرض الأمور بالعنف على المحافظة، رغم التوافق السابق. ومع التعديات التى رافقت ذلك والتعديات المقابلة، عادت الحرب الأهليّة السوريّة من جديد.
واستغلّت إسرائيل الموقف، وخطيئة السلطات السوريّة أو عدم قدرتها على ضبط الفصائل، لا لإنقاذ الدروز حقًّا، ولا نخوةً لدروزها الذين يشارك بعضهم، كما عشائر النقب، فى الإبادة الجماعيّة فى غزةّ، بل لإذلال رموز الدولة السوريّة فى دمشق ولفرض واقع جديد يرسّخ هيمنتها العسكريّة على الجنوب السورى، بجبله وبسهله الحورانى الأهمّ لها بموارده المائيّة وأرضه الزراعيّة. ولا يغفل نتنياهو أنّ عدوانه السافر قد أودى بعيدًا توجّه كثيرٍ من السوريين لدعم انخراط سوريا فى صفقة سلام إبراهيمى.
أمام مخاطر هذه العودة للحرب الأهليّة، انتفض كلّ من بقى له حسٌّ حقيقى بالمواطنة السوريّة المتساوية يصرخون «دم السورى على السورى حرام» و«كلّ طائفى عدوُّ لسوريا»، مهما كان انتماؤه الطائفى. واللافت أنّ هذه الانتفاضة شملت فعاليّات سياسيّة ودينيّة واجتماعيّة من جميع الأطراف.
• • •
بمعزل عن الحديث عن التوصّل لوقف لإطلاق النار، أخذت تداعيات هذه الأحداث سوريا إلى مفترق طرقٍ جديد قوّض كلّ الجهود التى تمّ بذلُها لإطلاق التعافى والإصلاح المؤسساتى و«إعادة إعمار الذهنيّات» منذ ثمانية أشهر. لقد تعمّق الشرخ الاجتماعى وتقسيم البلاد وتقوّضت الثقة. ما يتطلّب وقفة صريحة ومراجعة مع الذات لجميع السوريين مجتمعًا ودولة وسلطة قائمة.
لن يفيد «الخارج» أى طرف. والاهتمام بالداخلً هو الأساس لتجنّب كارثة. السلطة السوريّة مدعوّة إلى استعادة الثقة مع كلّ المجتمع عبر تغيير نهجها بعيدًا عن شعار «من حرّر هو الذى يقرِّر»، واعتماد الحكمة والتشاركيّة لترسيخ المواطنة المتساوية وتمكين دولة قادرة تتعامل بدراية ومسئوليّة مع الواقع القائم. والفعاليّات الاجتماعيّة مدعوّة أيضًا، مع مسئوليّة تطالها بنفس الأهميّة، كلٌّ من طرفه، إلى ضبط الانفلات المجتمعى الذى خلقه دمار الذهنيّات والتعالى عن خطابات التحريض الرخيصة التى تنشرها وسائل التواصل الاجتماعى وأقنية التلفزة.
إنّ الحروب الأهليّة تعلّم الأمم كيف تكره نفسها، كما قال الشاعر البرتغالى فرناندو بيسوا. والحرب الأهليّة لا يربحها أحد، الجميع فيها خاسرون. وفى الحرب الأهلية، تنقسم القلوب قبل أن تنقسم الأرض.. فليصب السوريون أساس جهدهم على إعادة بناء القلوب.. قبل أن يفوت الأوان. ولن يفيد الندم حينذاك فى شىء.