الدحيح فى بغداد - سيد محمود - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 7:34 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الدحيح فى بغداد

نشر فى : الثلاثاء 20 ديسمبر 2022 - 9:15 م | آخر تحديث : الثلاثاء 20 ديسمبر 2022 - 10:02 م

زرت بغداد للمرة الأولى فى حياتى خلال الأسبوع الماضى لحضور معرض العراق الدولى للكتاب وبدعوة من دار المدى المنظمة للمعرض ولا يمكن لزائر هذه المدينة إلا الاعتراف بسطوة التاريخ وإدراك المعنى الحقيقى لكلمة الحضارة فهى ليست بضاعة راكدة كما أن التاريخ ليس أكذوبة.
قاومت كثيرا زيارة العراق لأنى استسلمت للصورة التى تصدرها الفضائيات المهووسة بتنمية فكرة الصراع، لكن الحقيقة على الارض تقول أشياء أخرى وتنزع عن العراق وجهه الدموى وتعيده زاهيا فى الإطار الذى يكسبه ما يستحق من معنى.
أدركت هناك التناغم المبهر بين المزاجين العراقى والمصرى، والذى يأتى بطريقة أقرب لوجود القرار والجواب فى الموسيقى فقد تم تقسيم الشجن بين المزاجين، نال المصريون الحنان الكامن فى مقام الصبا وأخذ العراقيون منه النغم الحزين.
ولأن كل مدينة تدركها من كتابها قبل أن تزورها، فحين خطوت فى العراق شعرت أن كل هذه البلاد قابلتها من قبل، فى مسرات فؤاد التكرلى وأوجاعه، وأعرفها جيدا من الحنان الذى يغمر روايات انعام كجه جى، ومن جملتها وهى تقول (تدلل عينى) جملة حين تسمعها تفهم لماذا لا يكف العراقيون رغم كل ما عاشوه من حزن عن الغناء، إنه طريقهم الآمن إلى الله.
أما السير فى شوارع بغداد فهو شبيه اللقاء الذى رتبته مع صديق «معرفة قديمة» بينكما الكثير من الذكريات، التى يعرفها الهواء الذى بينكما. حيث المسافة محض خيال، يكفى ان تصمت لتدرك انه يحبك ويفهمك، يعرف ما يدور فى رأسك ويلبى دون ان تسأل.
فكرت هناك لماذا تنتعش التجارة فى الماضى، لماذا اجد صورا بالابيض والاسود فى الاماكن التى ادخلها ولماذا لا يكف التاريخ عن ملاحقتى؟! فخلف كل باب أثر وعند كل زاوية رفيق.
ورغم ما عانته بغداد من آثار الاحتلال والحروب التى جاءت من تمدد ثقافة الخوف فإنها تقاوم انضمامها إلى قائمة المدن المعاقبة وتسترد عافيتها بالتدريج وتنهض فيها كل صور الحياة.
ولك أن تتخيل مثلا كيف لبلد عانى ما عانى لا يزال أهله يربطون مسار مجده بالشعراء، فلم أعرف بلدا سوى العراق يمنح الشعر كل هذا الحضور فأينما وليت وجهك ثمة صورة لشاعر وتمثال لآخر ومقطع من قصيدة على زاوية فى حديقة وفى ظنى أن هذه المسألة هى قمة التحضر. ومن ثم فإن توافد الناس على معرض الكتاب هو آية من آيات المقاومة، وبفضل أحداث من هذا النوع تستعيد المدينة إيقاعها وتمارس حضورها المعتاد.
وعلى الرغم من جميع أشكال المعاناة فى الحياة اليومية وأولها ازدحام مرورى لا يمكن تفاديه يجىء الناس من أجل الكتاب ومن أجل اللقاء مع وجوه يعرفونها.
وأكثر ما لفت نظرى فى الفاعليات الندوة التى نظمت هناك لـ«الدحيح» أو أحمد الغندور المصرى صانع المحتوى الشهير الذى دخل قلوب العراقيين بسهولة.
كنت أظن أن تواصل الدحيح معهم أمر أصعب مما تخيلت بسبب لهجته العامية السريعة التى قد تحول دون التواصل معه إلا أن نظرتى تبدلت وأنا أرى توافد ما يزيد على عشرة آلاف عراقى من أعمار مختلفة لحضور اللقاء.
وطوال أكثرمن ساعتين وعلى مدى يومين وقف شباب العراق فى ساحات المعرض للاستماع لتجربة هذا الشاب الذى أكد بحضوره الواعى الواثق أن النجاح ليس ابنا للمصادفة وانما هونتاج عمل واجتهاد سعيا وراء فك شفرة الأجيال الجديدة.
نظر الدحيح إلى جدول فاعليات المعرض ووجده نفسه إلى جوار قامات فكرية وأدبية راسخة مثل المفكر السورى فراس السواح والشاعر عباس بيضون والشاعر حسب الشيخ جعفر وروائيين لهم حضور قوى مثل على بدر وطارق إمام وبثينة العيسى ومحمد النعاس إلا أنه غامر وكسر توقعات المتربصين بالتجربة ولم يتحدث إلا عن الكتب بوصفها الدليل إلى المعرفة، ووضع تجربته فى مكانها الصحيح مؤكدا أن صناعة المحتوى تحتاج إلى معرفة والمعرفة لا تأتى إلا من الثقافة وتحتاج إلى الكتب وعدد عناوين المؤلفات التى أثرت فى تكوينه وقال إن اختلا ف تجربته جاء من اعتماده على وسيط آخر مختلف لكنه مثل من جاءوا إليه شغوف بالقراءة ومثل هذا الشغف لا ينقطع أبدا.
غادرنا العراق، ونحن نقول هذا بلد ينبغى أن نعود إليه جميعا، وأن نسلم له أرواحنا دون تردد.