كارثة نجع حمادى وتقرير جمال العطيفى - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الأحد 19 مايو 2024 4:55 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كارثة نجع حمادى وتقرير جمال العطيفى

نشر فى : الخميس 21 يناير 2010 - 10:18 ص | آخر تحديث : الخميس 21 يناير 2010 - 10:18 ص

روعت مصر بكارثة نجع حمادى ليلة عيد الميلاد المجيد. كان للكارثة العديد من الوجوه المروعة، أهمها ما اتسمت به من وحشية على نحو ينقل الملف المحتقن للوحدة الوطنية فى مصر إلى مستوى مختلف. قدمت تفسيرات أولية لما وقع بربطه بحادثة اغتصاب شاب مسيحى طفلة مسلمة كانت قد سبقت الكارثة، وقد يكون هذا التفسير صحيحا، لكن ثمة أبعادا أخرى للكارثة أكثر خطورة بكثير تتعلق بأمن مصر ومستقبلها.

***

يلفت النظر أولا أن ردود فعل الحادث ــ وبالذات الرسمية منها ــ لم تختلف فى طبيعتها عن ردود الأفعال المعتادة. صحيح أن ثمة فارقا واضحا فى سرعة رد الفعل وشدته بما يتناسب وبشاعة الكارثة، لكن العودة إلى الجذور تكشف عن أن ردود الفعل السريعة والشديدة والسعى لمعالجة الأسباب كانت موجودة منذ عقود، مع أن الحوادث التى أفضت إليها آنذاك كانت أقل حدة وأهمية بكثير من كارثة نجع حمادى. الأخطر هو أن طبيعة ردود الفعل هذه المرة لا تبدو مختلفة، بما يعنى الإخفاق فى تحديد موقع الكارثة على منحنى التوتر الطائفى فى مصر.

يشهد على هذا الإصرار على الطبيعة الفردية للحادث، فالأمر لا يتجاوز أن «فردا» قتل عددا من الأقباط دونما خلفية طائفية، وقد عادت الحياة إلى طبيعتها بعد أيام قليلة من توتر مفهوم، ومما يزيد الأمور وضوحا لدى أصحاب هذا الإصرار أن الحادث قد تم انتقاما لاغتصاب طفلة مسلمة، وأنه لم يتضمن هجوما على الدير بذاته، وإنما جرت الجريمة على مقربة منه، وأنه طال الأقباط والمسلمين معا، وأن فهمه يبدو سهلا فى إطار عادة الأخذ بالثأر فى صعيد مصر، ناهيك عن أن يكون الثأر متعلقا بجريمة شرف. هكذا بدونا وكأننا أصبحنا نسلم بجرائم الثأر كجزء من نسيج حياتنا، بل إن أحد الكتاب تمنى لو كانت أم الضحية المغتصَبة قد فضحت المجرم أمام الناس ليفتكوا به وينتهى الموضوع!

من ناحية أخرى، لم يفسر لنا هؤلاء لماذا ينتقم لشرف «المسلمين» مسجل خطر سبق اعتقاله لسنوات ومعروفة عنه أعمال البلطجة؟ ولم يقل لنا هؤلاء أيضا ما هو بالضبط معنى الإصرار على «فردية» الحوادث طالما أنها أدت بنا إلى ما نحن فيه من هم وغم لا أذكر له مثيلا فى تاريخ مصر الحديث والمعاصر؟ وأى فارق فى الدلالة بين أن يكون الهجوم موجها للدير أو إلى أتباعه طالما أن قتلى قد سقطوا يوم عيدهم؟ وأى استخفاف بالعقل فى القول بأن الحادث قد طال الأقباط والمسلمين لمجرد أن شرطيا مسلما كان ضمن ضحايا الجريمة؟ وما جدوى عودة الحياة إلى طبيعتها بعد أن تأكل النار ما تأكله من نسيج الوطن ليتكرر النموذج بعد أيام أو أسابيع بعد أن كان معدل تواتره يقاس بالسنين؟

تسارعت مؤسسات النظام السياسى إلى الإدانة الشديدة لما وقع، وهو أقل ما يجب، وتم العديد من الزيارات لرموز هذه المؤسسات إلى موقع الكارثة فى نجع حمادى لتقديم التعازى، وهو أمر مرغوب، لولا أن كل هذه الأفعال لا تتجه إلى جوهر المشكلة. وللأمانة فقد تميز الخطاب السياسى لبعض هذه الرموز كما فى حديث رئيس مجلس الشعب عن ضرورة «الاستماع» لمطالب الأقباط فى إطار سيادة القانون ومبدأ المواطنة، وإثارته لاحتمال وجود تحريض على الجريمة، وتأكيد رئيس مجلس الشورى على البعد الثقافى فى المحنة الراهنة. غير أنه لا شك أن أداء المجلس القومى لحقوق الإنسان بالذات كان متميزا. بداية صرح الدكتور بطرس غالى رئيس المجلس بأن «الوضع خطير أكثر مما نتصور» لتكرار أحداث العنف، وانتشار عدوى التشدد الدينى والطائفى إلى شرائح المجتمع، وشكَّلَ المجلس لجنة لتقصى الحقائق، وأعد تقريرا تضمن عددا من التوصيات الجوهرية، كالإسراع بإصدار القانون الموحد لدور العبادة، وإجراء دراسة اجتماعية واقتصادية للأسباب الكامنة التى أدت إلى تكرار الحوادث الطائفية، وعقاب أى مسئول تثبت فى حقه جريمة التمييز، وتأكيد الصفة المدنية للدولة، والكف عن البرامج الإعلامية التى تحض على تديين الدولة، ومواجهة الكتب التى تعمق بذور التفرقة والاختلاف، والرقابة على المناهج الدراسية، وحماية حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر، ومطالبة الوعاظ بالابتعاد عن الحط من شأن أى دين، وزيادة تمثيل الأقباط فى الحياة السياسية والوظائف العامة.

***

لست متفائلا بمصير هذه التوصيات، لأن الجسور بين الآراء الموضوعية وآليات صنع القرار إما مهدمة أو غائبة، أو فى أحسن الأحوال ضعيفة لا تتحمل مرور هذه التوصيات فوقها. وقد دعانى هذا إلى استدعاء التقرير الشهير الذى وضعته اللجنة التى رأسها الدكتور جمال العطيفى، والتى شكلها مجلس الشعب فى 13نوفمبر1972 بناء على طلب رئيس الجمهورية لاستظهار الحقائق حول الأحداث الطائفية التى وقعت فى الخانكة يومى 6 و12 نوفمبر (لاحظ السرعة فى الاستجابة ومبادرة رئيس الجمهورية).

وكانت هذه الأحداث قد تمثلت فى قيام «مجهولين» يوم 6 نوفمبر بوضع النار فى جمعية الكتاب المقدس التى كان أقباط الخانكة يتخذونها بغير ترخيص مكانا لإقامة الشعائر الدينية، ثم وفود عدد كبير من القساوسة والمواطنين الأقباط يوم 12نوفمبر إلى الخانكة، وإقامتهم شعائر الصلاة فى مقر الجمعية المحترق، وتلا ذلك تجمع عدد كبير من المسلمين فى مساء اليوم نفسه وخروجهم فى مسيرة احتجاج، ونُسب حينها لمواطن قبطى أنه أطلق النار فى الهواء فوق رءوس المشاركين فى المسيرة، فتوجه بعضهم إلى مسكنه وإلى أماكن أخرى وقاموا بوضع النار فيها، ولم تحدث إصابات بشرية فى جميع مراحل الأحداث. وأظن أنه يصعب كثيرا على من يصرون على «فردية» أحداث التوتر الطائفى أن يواصلوا إصرارهم على ضوء هذه التفاصيل.

***

هالنى ما استرجعته بعد ذلك من تفاصيل التقرير، وأكثر ما هالنى أنه لو قام أحد بحذف توقيت الأحداث ومكانها وتفصيلاتها لتصورنا أن جمال العطيفى وصحبه قد كلفوا بوضع تقرير عن أحداث نجع حمادى، فالتقرير يتحدث عن اتهامات لعضو بالمجلس الشعبى للمحافظة بالتحريض على ارتكاب الحادث، وهو اتهام تكرر فى كارثة نجع حمادى لأحد أعضاء مجلس الشعب، وصلته بمرتكب الجريمة ثابتة، والتقرير يتحدث عن ظاهرة حلول الأفراد أو الجماعات محل الدولة فى استخدام العنف، وهو يتحدث كذلك عن تخريب متعمد تقوم به عناصر متطرفة من الجانبين بالترويج لمعلومات وتقارير مغلوطة تُنسب فى بعض الأحيان إلى جهات رسمية سياسية أو دينية، وتتضمن تحريضا على الطرف الآخر واستهزاء به ونسبة أمور غير صحيحة إليه مما من شأنه أن يعكر صفو الوحدة الوطنية ويؤدى إلى الأحداث التى تمس بها.

أفاض تقرير العطيفى كذلك فى الحديث عن أزمة تراخيص بناء الكنائس وترميمها مما بات معروفا لدى الكافة، وقدم اقتراحات موضوعية لتيسير صدور هذه التراخيص، لكن المهم ألا جديد تحت الشمس، فالمسلمون باتوا يضيقون بممارسة الأقباط شعائرهم الدينية فى أماكن غير مرخصة ككنائس، والترخيص ببناء الكنائس ما زال صعبا وبطيئا، ولذلك اتجهت الأفكار منذ تقرير العطيفى إلى تيسير صدور هذه التراخيص، وهو أمر مهم دون شك، لكنه لن يحل المشكلة وحده، ففى غيبة ثقافة التسامح يمكن أن تهاجم الكنائس المرخصة أيضا، خاصة وقد أصبح العنف أحد اللغات الرسمية فى المجتمع عامة، وليس لغة للإرهابيين وحدهم. ومن هنا فإن الحديث عن الإسراع بإصدار القانون الموحد لدور العبادة مسألة مهمة، لكنه لا يكفى دون تغيير ثقافى يطول المتطرفين على الجانبين، ولو لم يكن الأمر كذلك لنجح قانون الوحدة الوطنية لعام 1972 فى حمايتها، وهو القانون الذى بادر الرئيس أنور السادات بطلب إصداره، وأقره مجلس الشعب فى دورة انعقاد غير عادى فى أغسطس 1972.

ما القول فى مجتمع يعجز عن الحركة السليمة تجاه حماية تماسكه لمدة تقع بين ثلث القرن ونصفه؟ فقد صدر تقرير العطيفى فى 1972، أى قبل أكثر من سبعة وثلاثين عاما، وتضمن من التوصيات الثاقبة ما تضمنه، لكن شيئا لم يتغير على أرض الوطن، بل لقد انتقلنا من أزمة تراخيص بناء الكنائس إلى إدخال جرائم الشرف فى موضوع الوحدة الوطنية، وانتقلنا من الاكتفاء بإضرام النار والتخريب إلى القتل العمد، وانتقلنا من الإعلام المسئول إلى الإعلام الذى وجد بعض الغوغاء أماكن لهم فى فضائياته وصحفه على النحو الذى يمكنهم من الإمعان فى تمزيق المجتمع، وانتقلنا من الاهتمام المباشر والفورى من رئيس الجمهورية ــ كما تشهد أحداث الخانكة فى 1972ــ إلى أن يقودنا «مسجل خطر» إلى هلاك محتم لو بقيت الأمور على ما هى عليه.

يحتاج الأمر إذن إلى وقفة حقيقية، لأن المواجهة ليست سهلة كونها لا تتطلب فحسب إصدار تشريعات جديدة، وإنما تقتضى أيضا انضباطا عاليا ومسئولا تقوم عليه مؤسسات فاعلة لنظام الحكم، وتغييرا ثقافيا شاملا لابد له من سنين طويلة إذا بدأنا فيه الآن بجدية، وإيجادا لمعادلة صحيحة بين حرية الإعلام والقضاء على النزعة التخريبية للمواقع الغوغائية فى منظومته، وتخفيضا لدرجة حرارة الجسد المصرى من جراء الاحتقان الاجتماعى والاقتصادى قبل الطائفى، لأن الأخير دالة ولو جزئيا فى الأول، وعلاجا لظاهرة اعتماد العنف آلية لحل كل المشكلات المجتمعية وليس المشكلات الطائفية وحدها، وحلا ناجزا لمعضلة المواطنة يقوم على عدم التمييز.

***

أقول قولى هذا ولا أجد ما اختتم به خيرا من اقتباس من تقرير الدكتور جمال العطيفى حمل معنى النبوءة: «ما لم ننفذ إلى هذه المشكلة فى أعماقها، ونتعقب الأسباب المؤدية لها، ونقترح لها علاجا، فإن هناك خشية أن تتوقف المتابعة عندما تهدأ النفوس وتستقر الأوضاع، ويفتر بذلك الاهتمام بحلول دائمة لا تقديم مسكنات وقتية، مما يهدد بعودة الداء الكامن إلى الظهور أشد خطرا وفتكا». وقد حدث ما توقعه العطيفى وصحبه، فهل نبدأ من هذه اللحظة مسيرة كان يفترض أن تبدأ منذ أكثر من سبعة وثلاثين سنة إن كنا نحرص على الوطن؟ أم أن الجمود قد أصابنا على نحو لا يمكن الفكاك منه؟
أستاذ العلوم السياسية  

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية