روشتة «أليف شافاك» - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأحد 12 مايو 2024 11:56 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

روشتة «أليف شافاك»

نشر فى : السبت 21 أكتوبر 2023 - 9:15 م | آخر تحديث : السبت 21 أكتوبر 2023 - 9:15 م
أعترف أننى لم أكن متحمسًا لقراءة هذا الكتيّب الصغير، من منطلق اعتقادى أنه مثل كتب التنمية البشرية التى لا أحبها، ومن زاوية أنه كتيّب من تأليف أليف شافاك، التى لا أعتبرنى من المعجبين دومًا برواياتها، والتى لا أظن أنها تمتلك خبرة إنسانية واسعة، تتيح لها وضع روشتة للتعامل مع مشكلات عالمنا المعاصر.
ولكن ما إنْ بدأت فى قراءة الكتيّب وعنوانه «كيف نحافظ سلامة عقولنا فى عصر منقسم؟» (ترجمة: أحمد حسن المعينى، والناشر دار الآداب/ والطبعة المصرية صادرة عن مكتبة تنمية)، حتى وجدتنى مستغرقًا وسعيدًا بهذه الطريقة التى تجمع بين البساطة والعمق، وبين الحكايات والتحليلات وعلامات الاستفهام، وأدهشنى بشكلٍ خاص وضع أليف يدها على نقاط جوهرية وحقيقية، وقدرتها على النظر من زوايا غير تقليدية، وصولًا إلى تشخيص صادم، ولكنه صائب فى كثيرٍ من الأحيان.
ورغم أن الكتيّب، وهو سلسلة مقالات قصيرة، وضع فى ظل ظروف أزمة كورونا، وما أفرزته من شعور عام بالعجز والقلق والتشاؤم، فإن كلمات شافاك وتحليلاتها، يمكن أن تنطبق على ما جاء بعد ذلك من كوارث، فى عالم الحرب الروسية الأوكرانية، التى سمعنا فيها تهديدات صريحة بإفناء العالم، وبإشعال حرب نووية، وكذلك كارثة الحرب على غزة، كما تنطبق تحليلات شافاك عمومًا على حياتنا المعاصرة بكل مشكلاتها، من التفاوت الهائل بين الشمال والجنوب، وخطر التغير المناخى، إلى ثورة الذكاء الاصطناعى، وزمن السوشيال ميديا.
جوهر رؤية شافاك أن ثورة المعلومات، وسهولة التعبير عن الذات، والتقدم التقنى، كل ذلك لا يعنى بالضرورة أن يكون الإنسان أكثر سعادة، أو أقل قلقا أو غضبًا، ولا أكثر رضا عن أحواله، ولا أكثر ثقة وتفاؤلًا بالمستقبل، على العكس، فنحن أمام عاصفة من القلق العام، وشعور بالخذلان، وثمة صدمة حقيقية بسبب المسافة الهائلة بين التوقعات، وما حصل عليه الإنسان بالفعل.
تعتمد شافاك على دراساتٍ تقول إنه حتى فى الدول الديمقراطية، فإن نصف من يعيشون فيها يقولون إن أصواتهم إما «غير مسموعة أبدًا»، أو «نادرًا ما تسمع»، فما بالنا بأصوات الذين يعيشون فى دول غير ديمقراطية؟!
تستشهد أيضًا بعبارة رأتها مكتوبة فى حديقة عامة فى لندن، ردًا على سؤال يقول: «حين يمضى كل هذا، كيف تريد أن يكون العالم؟»، فقد كتب أحدهم: «حين يمضى كل هذا أريد أن أعيش فى عالم مختلف يكون لى فيه صوت مسموع».
هناك شعور عام بأن القرارات تتخذ بعيدًا عن الناس، وأن هناك إلحاحًا بأن يسمعنا أحد، ورغم وجود وسائل التواصل الاجتماعى، فإنها تتغذى على التكرار المألوف والمريح للأفكار، والذى لا يسائل عقولنا أو عواطفنا، فكأننا نرى أنفسنا فى المرايا، وكأن ما نراه أصداء وليس أصواتا، كما أن تلك الوسائل تعتمد على خوارزميات تأخذنا إلى ما يتسق أصلًا مع أفكارنا أو تفضيلاتنا، وهى تكرس «النرجسية الجماعية»، بالانتماء إلى جماعة تشعرنا بالأهمية، تعويضًا عن أخطائنا، وخيباتنا الشخصية.
حالة من القلق واضحة ومتمكنة، وهناك غضب فردى وجماعى نحتاج أن يتجه إلى الخير والعمل، وليس إلى العنف والتدمير، كما نحتاج، كما تقترح شافاك، إعادة تعريف معانى مصطلحات كما نظنها مستقرة، كالحرية والديمقراطية والانتماء، وكما تقول مثلًا فإن الانتماء ليس مفهوما ضيقا، ولكنه شامل ومتعدد: أليف ولدت فى فرنسا، ونشأت فى تركيا، وأمضت جزءا من شبابها فى أسبانيا والولايات المتحدة، وتعيش كمواطنة فى بريطانيا، وتحمل جنسيتها، ولكنها أيضا «إسطنبولية» القلب والذاكرة.
الأزمة إذن وجودية عامة، وأليف ترصّع دوما أفكارها بحكايات جميلة، فهى تحكى مثلا فى معرض حديثها عن الوحدة والألم، عن أول يوم لها فى إسطنبول، وكيف شاهدت فى الشارع ليلا، من نافذة غرفتها، امرأة عاهرة متحولة الجنس، متعبة وغاضبة، حزينة وتحمل حذاءها، وبدلا من أن تهتم بها أليف، فإنها انكافأت على نفسها، وشعرت بالخوف والخجل.
تحكى أليف أيضا عن جدتها، والدة أمها، التى دفعت ابنتها بعد طلاقها أن تكمل تعليمها الجامعى، قالت الجدة لوالدة أليف إنها ستتكفل بالعناية بالطفلة، وتحدثت الجدة عن رفض أسرتها أن تكمل تعليمها، فجعلت مشروعها أن تدفع ابنتها لاستكمال التعليم، بل وطلبت من ابنتها أن تتابع تعليم الحقيدة أليف، وتشجعها، وكان المنطق بسيطا، بأن يدفع كل جيل الجيل التالى إلى الأمام، فتصبح الحياة عموما أسعد وأفضل.
ومن أجمل حكايات شافاك، قصة معاناتها فى تعلم الكتابة، فهى عسراء، ولم يكن ذلك مقبولا من الجميع، فالمدرّسة تدفعها لاستخدام اليد اليمنى، وتحفزها بذكر أن ملاك الجانب الأيسر يسجل الخطايا والذنوب، لقد كانت الطفلة أليف تحت ضغط عنيف، وكأنها ارتكبت ذنبا، لأنها ولدت عسراء، فماذا تفعل؟
تقول إنها تغلبت على هذه المشكلة بكتابة حرف الجيم المخففة باللغة التركية، هذا الحرف لا ينطق أبدا، فاعتبرته أليف مختلفا مثل يدها اليسرى، رأته صامتا ومهمشا مثلها، وقررت أن تستخدم يدها اليمنى فى كتابته عشرات المرات، بل اخترعت وجوده فى كلمات تركية.
صار الحرف الصامت متكلما باسمها، وأصبح وسيلتها للكتابة والتعبير عن نفسها.
ترى أليف فى النهاية أن هناك فائضا فى المعلومات، وقليلا من المعرفة، وقدرا ضئيلا جدا من الحكمة، ولابد أن نغيّر هذه المعادلة، بأن نكون فى حاجة إلى معلومات أقل، ومعرفة أكثر، وقدر أكبر بكثير من الحكمة.
المعرفة تتطلب قراءة، وكتبا، وتحليلات، وصحافة استقصائية، والحكمة تربط بين العقل والقلب، وتفعّل الذكاء العاطفى، وتزيد من التعاطف مع الآخرين، فالبشر حكايات، وليسوا أرقاما.
تحذر أليف من «المجتمع المتفتت»، وتنحاز للإنسانية بدلا من القبليّة.
تذكرنا كذلك بهذا المزيج من التفاؤل الواعى، والتشاؤم الخلاّق، لذلك نحتاج، كما قال جرامشى، إلى «تشاؤم العقل، وتفاؤل الإرادة».
شكرا أليف على براعة التشخيص، والعلاج.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات