تعارض المصالح.. الحقيقة والوهم - مدحت نافع - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:00 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تعارض المصالح.. الحقيقة والوهم

نشر فى : الثلاثاء 22 يناير 2019 - 1:35 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 22 يناير 2019 - 1:35 ص

يظن بعض الجهابذة أنهم قد وقعوا على صيد ثمين بكشفهم عن شبهة من شبهات تعارض المصالح فى مكان العمل، أو ممارسات السياسة، ومواقع المسئولية المؤسسية، ومجالات الخدمة العامة وغير ذلك!... الواقع أن مواطن الشبهات فى مسألة تعارض المصالح تفوق كثيرا وهم الاستقلالية والحياد التام عن أى نزعة أو سابقة عمل أو علاقة تعاقدية أو حتى انتماء اجتماعى أو جغرافى أو ثقافى إلى غير ذلك من أسباب تجعل صاحبها فى موقع المبرر لقراراته وانحيازاته، كونها تمثل احتمالا لتعارض المصالح. بل إن اختيار الشخص المناسب لموقع مسئولية وقيادة، عادة ما يصطدم بتناقضات كثيرة فى السيرة الذاتية للمرشح لشغل الموقع، فإذا تعددت خبراته واتسعت دائرة معارفه واتصالاته، كان الأنسب بين المرشحين، لكنه يعد أكثرهم تعرضا للصور المختلفة لتعارض المصالح.

هذا نوع من المخاطر الذى يجب إدارته، ولا يمكن تجنبه إلا بتحمل الكثير من الخسائر والفرص الضائعة. فما ظنك بمن يتوهم تجنب تلك المخاطر نهائيا إذا هم باختيار رئيس تنفيذى جديد لإحدى الشركات العاملة فى مجال الأوراق المالية مثلا؟!، المرشح المثالى فى تلك الحالة هو شخص أكاديمى صرف، أو خرج لتوه من أحد الكهوف! أما إذا تعاملت مع تعارض المصالح بوصفه من المخاطر الواجب إدارتها بفن وذكاء، فقد يقع اختيارك على رئيس سابق، وربما شريك مساهم فى إحدى الشركات المنافسة، والذى بالتأكيد تربطه علاقات لا نهائية فى مجال سوق رأس المال، وتلك العلاقات تشكل احتمالا لتعارض المصالح لدى اتخاذ الشخص قرارا فى مجلس الإدارة من شأنه المساس بأى من تلك العلاقات، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

***
البحث فى تعارض المصالح يأخذ منحى شديد الأهمية كلما اتصل مداره بقواعد الحوكمة المؤسسية. وقد صدر أول تعريف صريح للحوكمة المؤسسية فى عام ١٩٩٢ ضمن تقرير «المظاهر المالية للحوكمة المؤسسية» والذى عرف لاحقا بتقرير كادبورى نسبة إلى «أدريان كادبورى» رئيس اللجنة التى أعدت التقرير والذى عرف فيه الحوكمة المؤسسية بأنها «النظام الذى يتم من خلاله توجيه الشركات والرقابة عليها». وتتضمن الحوكمة المؤسسية عملية التوازن بين الأهداف العديدة للأطراف أصحاب المصلحة stakeholders ومنهم حملة الأسهم، والإدارة، والعاملون، والعملاء، والموردون، والجهات التمويلية، والحكومة، والمجتمع... ولأن تعريف عضو مجلس الإدارة «المستقل» يعتبر خطوة أولى لازمة قبل تشكيل المجلس وفقا لقواعد الحوكمة، والتى عادة ما تميز بين الأعضاء التنفيذيين وغير التنفيذيين والمستقلين، فقد شكل هذا الأمر صعوبة بالغة فى مختلف المؤسسات، بل وتختلف درجة تعقيده من مؤسسة لأخرى، ومن بلد لآخر.

فى الدول التى يحظى بها حملة الأسهم بأهمية كبيرة نسبيا مثل الولايات المتحدة الأمريكية، يلتزم أعضاء مجلس الإدارة بتعظيم مصالح حملة الأسهم، وهم مسئولون أمامهم فقط بتعظيم قيمة سهم الشركة. مع ذلك فإن الإفراط فى تعظيم مصلحة حملة الأسهم ينطوى على صور كثيرة من التعارض تجاه الأطراف الأخرى من أصحاب المصالح. فالترتيبات التعاقدية تجعل تعارض المصالح بين مختلف الأطراف سمة غالبة لا فكاك منها. يتوقع من أعضاء مجلس الإدارة أن يصدروا أحكاما ويتخذوا قرارات تتسم بالشفافية، وتراعى الأخلاق كلما برز ذلك التعارض. فى دول أخرى مثل ألمانيا يكون التزام أعضاء مجلس الإدارة بتعظيم مصلحة الشركة بعيدا عن حملة أسهمها، ولا يعدو حملة الأسهم أن يكونوا طرفا من مختلف الأطراف أصحاب المصالح فى الشركة. هذا النوع من مجالس الإدارات عادة ما يمثل فيه العاملون بالشركات بعدد من المقاعد، وهؤلاء تتعارض مصالحهم بشدة مع حملة الأسهم فى كثير من القرارات. وعلى الرغم من لجوء مجالس الإدارات فى مختلف الدول إلى توقيع تعهد باحترام سياسة تجنب تعارض المصالح، فإن الالتزام بتلك السياسة يكون فى غاية الصعوبة عندما يتعدد أصحاب المصالح داخل المجلس الواحد، وتزداد الصورة تعقيدا إذا ما انضم إلى الأطراف ذوى المصلحة أطراف أخرى مثل الجهات الحكومية والمجتمع المدنى.

***
ويذكر البروفيسور «ديدييه كوسين» أستاذ الحوكمة والتمويل أربعة مستويات من تعارض المصالح يواجهها مجلس الإدارة لدى اتخاذه قرارات تمس مختلف الأطراف أصحاب المصلحة بالمؤسسة.

المستوى الأول من تعارض المصالح ينشأ بين عضو مجلس الإدارة والشركة، باختصار: يجب ألا يحقق العضو أى استفادة من عضويته بالمجلس. كإحدى أهم أدوات صناعة القرار المؤسسى، ينبغى على عضو مجلس الإدارة أن يبتغى بصوته فى المجلس تعظيم منفعة الأطراف أصحاب المصلحة، سواء كانوا من حملة الأسهم أو أى اطراف أخرى.
من الصور الصارخة لتعارض المصالح فى هذا السياق التحيز فى إقرار الرواتب والمزايا، واستغلال أصول الشركة، وتحرير عقود المعاوضة، وتحقيق مصالح خاصة من فرص متاحة أمام الشركة، وتعامل الداخليين على الأسهم (الاستفادة بمعلومات حصرية متاحة للعضو لتحقيق أرباح رأسمالية من التعامل على أسهم الشركة)... يتوقع من كل أعضاء مجلس الإدارة الالتزام بمكارم الأخلاق، وبالإفصاح عن مختلف احتمالات تعارض المصالح، وبذل عناية الرجل الحريص لإزالة هذا التعارض. لا أمل إذن فى الاعتماد على أدوات الرقابة وحدها للحد من الآثار السلبية لتعارض المصالح. ضمير عضو مجلس الإدارة و«التزامه» (ولا أقول إلزامه) بتنزيه نفسه عن تعارض المصالح هو الأساس.

المستوى الثانى من تعارض المصالح، هو الذى ينشأ حينما يقع عضو مجلس الإدارة تحت تأثير عضو أو أعضاء آخرين يحولون ولاءه تجاه الشركة أو حملة أسهمها أو أصحاب المصلحة فيها إلى ولاء منحرف، يحقق أهداف أولئك الأعضاء الذين عادة ما يستخدمون أدوات التأثير المالى أو النفسى لتحقيق مصالحهم. هنا يخلق العضو الذى انحرفت ولاءاته جماعة مصالح جديدة، عادة ما تكون من الأعضاء «المستقلين»، يمنحها صوته ولو على حساب سائر الأطراف فلا يكون ثمة محل لاستقلال.

المستوى الثالث من التعارض ينشأ حينما لا يتحقق التوازن المطلوب بين أهداف أصحاب المصالح. عادة ما يقوم حملة الأسهم بتعيين أعضاء مجلس الإدارة بناء على سيرة ذاتية غنية ومهارات استثنائية تمكنهم من اتخاذ قرارات حاسمة ومتزنة. بمجرد تشكيل المجلس يواجه العضو سلسلة متشابكة من تعارض أهداف أصحاب المصالح المختلفين، وبصورة تلقائية يتجه صوته فى المسائل الحيوية لدعم أهداف المجموعة التى اختارته أو التى يمثلها، ولو على حساب مصالح المجموعات الأخرى. يتعين على عضو مجلس الإدارة أن ينأى بانحيازاته إلى أحد الأطراف عن القرارات التى يدعمها، وهو أمر غاية فى الصعوبة خاصة إذا كانت قناعة العضو تتجه إلى تنزيه الطرف الذى يمثله، وتعتبر مصلحته دائما هى الاختيار الأخلاقى الوحيد.

المستوى الرابع من تعارض المصالح ينشأ بين المؤسسة والمجتمع، ويطفو على السطح كلما كان القرار الذى يعظم منفعة المؤسسة أو الشركة يأتى على حساب المجتمع. الشركات التى تعمل فى أنشطة ملوثة للبيئة دائما ما تصطدم بهذا النوع من تعارض المصالح. وبعيدا عن تلك الصورة الفجة لتعارض المصالح، فتعظيم أرباح الشركة كهدف أصيل للشركات كثيرا ما يتعارض مع مصلحة المجتمع الذى تعمل فيه تلك الشركة، والتى قد تلجأ إلى تضليل وخداع العملاء بدعاية غير نزيهة، أو التهرب الضريبى، وقهر العمالة... من أجل تعظيم أرباحها. السؤال هنا: كيف يتخذ أعضاء مجلس إدارة تلك الشركة قرارات أخلاقية تراعى المجتمع كما تراعى مصلحة الشركة المجردة؟ هنا تتجلى الحاجة إلى تحقيق التوازن بين أهداف أصحاب المصالح فى أعقد صورها.

***
فى ورقة بحثية حديثة صادرة عن الباحثين Tarun Khannaو Juan Ma تناولت الأعضاء المستقلين فى مجالس إدارات الشركات مع التركيز على الشركات الصينية المقيدة بالبورصة، والتى ثمة قانون صينى يلزم أعضاء مجالس إداراتها المستقلين بالإفصاح عن أوجه وأسباب اعتراضهم على رأى الأغلبية فى المسائل الجوهرية! الورقة بعنوان ,Independent Directors' Dissent on Boards: Evidence from Listed Companies in China وقد خلصت إلى أن الروابط الاجتماعية لأعضاء مجالس الإدارة «المستقلين» هى العامل الأكثر تأثيرا على قراراتهم وليس أداء الشركات، الأمر الذى يهدم فكرة الاستقلالية المطلقة من أساسها، والأبحاث كثيرة فى هذا المجال.

تعارض المصالح يشبه الوضع الاحتكارى، لا ضرر منه إلا إذا وقعت من صاحبه ممارسة احتكارية يستفيد من خلالها بذلك الوضع الذى ربما فرض عليه بحكم طبيعة السلعة أو حجم السوق. كذلك «احتمال» تعارض المصالح، لا يقع منه ضرر إلا إذا استغله صاحبه وحقق منه منفعة لصالحه أو لصالح أطراف أخرى، بخلاف الأطراف الذين يتعين عليهم خدمة مصالحهم وتحقيق التوازن بينها.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات