مغاوير وأشباح.. وبعض الدببة ! - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 3:35 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مغاوير وأشباح.. وبعض الدببة !

نشر فى : الخميس 22 أبريل 2010 - 9:30 ص | آخر تحديث : الخميس 22 أبريل 2010 - 9:30 ص

 
لو لم تكن هناك شرطة، لأصيب كل البشر بالسرطان فى عمر الطفولة، وبادت البشرية وهى فى مهدها، لهذا أعتبر مهمة الشرطة فى الحياة مقدسة، وتدنسها كل جريمة تقع من أى شرطة، أو تقع فى حقها، ومثلما شعرت بأن ما حدث للشرطة فى قيرغيزستان هو رد فعل لما اقترفته بإيعاز من الحكم المخلوع، شعرت بالانقباض والتعاسة وأنا أشاهد الجماهير الغاضبة وهى تنتقم منها بشراسة دموية، وأوجعتنى صورة لمتظاهر يركل ضابط شرطة فى بطنه، بينما التوى الضابط على نفسه يتلقى ضربة القدم القاتلة فى انكسار.


ألممت بالمشهد القيرغيزى، فرأيت بلدا أفقره فساد الحكم إلى درجة الجوع، وانتفاضة أخرجت المقهورين من إذعانهم، والمساجين من محابسهم، وزحفت بالجماهير الغاضبة إلى قصر الرئاسة، لكن الرئيس كان قد لاذ بالفرار، ولم ينس وهو يفر أن يورط شرطة بلاده فى بؤس ما ارتكبت يداه وعائلته وحاشيته والأتباع، فأصدر أمرا بتصدى الشرطة للمتظاهرين بالمدرعات والرصاص، ووقعت الواقعة التاريخية المكررة: غلبت الكثرة الغاضبة بأياديها المجردة هؤلاء المدجَّجين بالسلاح، سالت دماء غزيرة وسقط عشرات القتلى، انهارت كينونة الدولة، فامتزج السلب والنهب والتخريب بشعارات الثورة، وكان على الحكومة التى قامت على أنقاض الحكم الهارب أن تنهى حالة الفوضى، فاستعانت بالجيش، واستعادت جهاز الشرطة!


الشرطة مهمة مقدسة، لأنه ما من تجمع من تجمعات الحياة والأحياء إلا واختصه الله بجهاز شرطة من جنسه يحمى أمن أفراده ويصون طمأنينتهم حتى يستمروا فى الوجود الخلاّق. وأعتقد أن أعظم جهاز شرطة على وجه الأرض هو جهازنا المناعى، الذى تنبثق خلاياه من أعماق عظامنا، ثم تنتقل إلى الجهاز الليمفاوى لتتوزع على الجسد كله. جهاز شُرَطى رائع التواصل وبديع التآزر ومغوار المبادرة، ولعل فرقة خلاياه المسماة Tc هى فرقة العمليات الخاصة التى تكتشف، وتحاصر، وتباغت، وتزيل الخلايا السرطانية التى تنفلت عبر عمليات انقسام وتجدُّد الخلايا الطبيعية فى كل أنسجتنا، وهى عملية لا تتوقف منذ بداية الحياة حتى نهايتها، ولولا عمل هذه الفرقة من مغاوير شرطتنا الربانية، لوقعت البشرية كلها فريسة للسرطان فى أعمار مبكرة لم تكن لتتيح استمرارنا على وجه الأرض ولو لجيل واحد. وفى المقابل فإن انحراف بعض خلايا هذا الجهاز كفيل بتحويل الجهاز المناعى من جهاز لحفظ أمن وأمان الجسد، إلى جهاز متواطئ ضده لصالح الميكروبات والأجسام الغريبة والسرطان، بل إلى عصابة إجرامية تغير على أهلها، فتهاجم الخلايا المناعية خلايا الأنسجة الطبيعية، وتظهر «أمراض المناعة الذاتية»، حيث يأكل الجسم نفسه!


وحتى لا يأكل الجسم نفسه، حتى لا تهاجم الشرطة من ينبغى أن تحميهم فى المجتمع، لابد أن تتمتع هذه الشرطة بالسويّة العالية، والحفاظ على سوية هذه الشرطة لا أراه وقفا على جهاز الشرطة وحده، والذى يجد نفسه كثيرا فى مواقف لا يُحسد عليها، بين فلسفة وجوده السوى ومتطلبات المنظومة السياسية الحاكمة غير السوية. ومثال ذلك الفضيحة البرلمانية التى جلجلت تحت القبة منذ أيام، عندما انبرت أصوات تابعة للحزب الحاكم مطالبة الشرطة بإطلاق النار على المحتجين بالطرق السلمية! وهى حالة سُعار أعمى لمن يُفترض أنهم نواب الشعب، فكأنهم لا يدركون خطورة توريط جهاز كالشرطة فى ثارات دموية هو فى غنى عنها، كما الأمة كلها، بل الحكم نفسه إن وعى مخاطر تحريضات أتباعه من الدببة! فماذا نفعل؟


لا ينبغى أن ننسى ونحن نحتج على بعض الممارسات الشرطية الجانحة، أن السوية لايزال لها تألق عظيم فى هذا الجهاز الوطنى المهم، بدليل وجود مآثر رائعة تتعدد أمثلتها، من ضابط شاب يتبرع بدمه لينقذ رضيعا لا يمت له بصلة قرابة أو معرفة، ولواء يلقى حتفه على يد مهرب مخدرات ممن حاصرتهم جدية الأداء الشرطى للبطل الشهيد، ونقيب يصرعه الرصاص وهو يلبى واجبه فى إنقاذ شرف مواطِنة مخطوفة استغاثت به، وملازم يجرى سحله فى وسط العاصمة لأنه أصر أن يوقف عربدة سائق منفلت. أمثلة عديدة تمنحنا الأمل فى جهاز علينا تثمين فضائله وإعلاء فضل شرفائه، ببعد نظر يرى إلى أبعد من بضع سنين، فقط بضع سنين، وهل فى عمر أى سلطة أوسلطان إلا بضع سنين؟!


لا ينبغى أبدا التعامل مع جهاز الشرطة، عموما، كخصم للشعب، فهو، بما فيه جهاز أمن الدولة نفسه، ضحية مثلنا، وإن من زاوية مختلفة، لإرادات سياسية مشوهة، لا يهمها تشويه هذا الجهاز الوطنى مادام يخدم توجهاتها الأنانية قصيرة النظر، ومن أوضح مظاهر التشويه التى لحقت بهذا الجهاز، استخدام فرق من شبان شرسين مجهولى الهوية فى ثياب مدنية يُطلَق عليهم «فرق الكاراتيه»، وهم يندسون بهيئاتهم المدنية بين الناس ويتناثرون على الأرصفة وفى المواقع التى تكون مسرحا لأى احتجاج سلمى.


وبطرق اتصال غامضة كأنهم يتلقون أوامرهم بالتخاطر من مصدر مجهول ينقضون معا وبقسوة بالغة على المحتجين المسالمين، ظاهرة بدأ بروزها فى وباء تزوير انتخابات 2005، حيث ظهروا كقطعان مزودة بهراوات متماثلة وسكاكين متماثلة لترويع الناخبين وتمرير التزوير، ثم توالى ظهورهم على امتداد السنوات التالية، تبشَّعوا فى انتهاك حرمة أجساد البنات فى أكثر من حالة احتجاج سلمى فى الشوارع، وفتكوا بالكهول وسحلوا الشباب فى مشاهد متكررة باتت عنوانا عالميا لما يحدث فى حياتنا «الديموقراطية»، ثم كانت الإضافة الأخطر فى 6 أبريل الماضى عندما رأينا هؤلاء المجاهيل فى ثيابهم المدنية يقومون ليس فقط بمهام التنكيل والمطاردة، بل بالقبض على الناس فى الشوارع، وهذا أخطر ما يكون، على جهاز الشرطة نفسه، وعلى الأمة كلها.. على الحاضر والمستقبل! كيف؟


إن الشارات والزى الرسمى للشرطة وغيرها ليست مجرد مظاهر للسلطة والأبهة، فهى أبعد وأعمق من ذلك بكثير عند تأمل الأبعاد النفسية والاجتماعية والمهنية لها فى الأجهزة المصنَّفة بأنها «نظير عسكرية paramilitary» كالشرطة، وقوات الدفاع المدنى، وخدمات الطوارئ، وحراس الأمن. فهى ذات أهمية مُعزِّزة للثقة لدى مرتديها وموحية بالخصوصية عند الجمهور، وقد درس الباحثان الاجتماعيان «برات ورافييل» من الأكاديمية الأمريكية لعلوم الإدارة، مفهوم «الزى الرسمى»، وعرّفَاه بأنه منظومة من الإشارات التى تعمل على تعريف المجتمع بدور مرتدى الزى، وتحدد مكانه ومكانته، فهى تقوم بدور اتصالى وإشهارى. وأضاف الباحث «جوزيف ناثان» أن دور هذا الزى الرسمى هو وضع مُحدِّدات لمهام الفرد، وقوة المؤسسة التى ينتمى إليها، وتقوية رابطة الزمالة بين أفرادها، وتفعيل استجابات الجمهور لأفراد هذه المؤسسة.


وبكلام بسيط، أضيف إليه بعض الأبعاد النفسية، فإن الزى الرسمى لرجل الشرطة، كما أى وسيلة يشهر بها وظيفته، هى بيان يحدد سلطته، ويقنن تدخلاته، وبالتالى يوجب على الفرد العادى تعاونا خاصا مع فرد الشرطة، ويُلزم فرد الشرطة بحدود قانونية للتعامل. أما إيكال مهام الشرطة لمجاهيل فى ثياب مدنية، لأشباح، حتى لو كانوا منتمين سريا لفريق شُرَطى غير معلوم، فإن هذا يحمل فى طياته مخاطر جسيمة، أولها إغراء أفراد هذه الفرق السرية بالتجاوز فى العنف دون مرجعية ولا مُراجعة، لأن تمويه هويتهم وتغطية اعتداءاتهم يجعلهم منتفخين بالاختلال النفسى، السيكوباتى، تماما كأفراد العصابات وتنظيمات العنف السرية المعادية للمجتمع، ثم إن تعمُّد هذا التجهيل لهؤلاء الأفراد ينذر بتجاوزات خطيرة فى حق الخصوم، قد تصل إلى حد التصفيات الجسدية!! وفى المقابل، فإن هذا التجهيل يُنمِّى فى الجمهور احتمالات الممانعة بالعنف، عندما يرى الناس أن من يطاردونهم ويقبضون عليهم أشباح شرسة مجهولة الهوية، فيمكن أن يستولد هذا مقاومة عنيفة كحق دفاع تلقائى عن النفس، ومن العنف والعنف المضاد تتولّد شرارات يمكن أن تشعل حرائق هائلة تتحاشاها أى سلطة لديها ذرة عقل، ولا تريدها كل معارضة حضارية بعيدة النظر.


إننى أنادى أهل القانون من فعاليات المجتمع المدنى بسرعة تجريم هذه الظاهرة قضائيا لشدة خطورتها على الجميع، كما أطالب العقلاء فى هذه السلطة، ولو من زاوية المصلحة الذاتية بعيدة المدى، أن يحفظوا للشرطة هيبتها، بل قداسة مهمتها، ومن ناحيتنا، علينا أن نستمر فى تثمين وتقدير وحب كل الشرفاء والأبطال والطيبين فى هذا الجهاز النبيل، جهاز شرطة مصر كلها، لأن الدولة ينبغى أن تبقى، والمؤسسات نشأت لتعيش أطول من عمر الأفراد، وعمر شِلل أصحاب المصالح الرديئة. إنها مراهنة على قوى الخير التى أظنها باقية ما بقيت الحياة على الأرض.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .