دستور ولا كل الدساتير! - بلال فضل - بوابة الشروق
الإثنين 29 أبريل 2024 6:53 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دستور ولا كل الدساتير!

نشر فى : الإثنين 22 يوليه 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأربعاء 20 نوفمبر 2013 - 7:43 م

مثلما أثبت الواقع للكثيرين وهم شعار «الإسلام هو الحل» لأن ما ينسبه أي حزب سياسي إلى الإسلام ليس سوى رؤيته البشرية الخاصة التي لا يصح نسبتها إلى الإسلام، يوما ما سيثبت الواقع للكثيرين وهم شعار «الدستور أولا»، لأن أي رؤية مسبقة تفرض على مجتمع ستفشل مهما كانت عبقرية واضعيها، فلن ينصلح حال أي مجتمع إلا بعد خوضه لتجارب طويلة ومريرة من الصراع والجدل مع الواقع والتطاحن بين الرؤى المختلفة، حتى ينتهي ذلك بتوافق كل القوى الفاعلة في المجتمع على مبادئ للعيش المشترك يتم توريثها للأجيال القادمة التي سيكون من حقها تعديل هذه الرؤية طبقا لما يستجد على واقعها.

بعض الذين يرون أن الثورة المصرية لن يُكتب لها النجاح إلا إذا نجحت في وضع دستور تسير عليه الأجيال القادمة، يستشهدون بإعلان الإستقلال الأمريكي الذي يفاخر به الأمريكان شعوب الأرض ويعتبرونه أهم ثمار ثورتهم والركيزة الأساسية التي بنوا عليها تقدمهم، وهؤلاء ربما لم يقرأوا كتاب المؤرخ الأمريكي هوارد زن (التاريخ الشعبي للولايات المتحدة) صدر بترجمة لشعبان مكاوي عن المجلس الأعلى للثقافة والذي ستكتشف عند قراءته أنه قبل إعلان الإستقلال صدرت أكثر من 400 وثيقة ونشرة دستورية تمت كتابتها خلال 25 عاما، وكل من هذه الوثائق والنشرات كان يقدم محاولة لحل مشاكل المجتمع الأمريكي، وبعد نجاح قصير كان يفشل ليفرض الواقع المتغير وثيقة أخرى تفشل بدورها، حتى تم الوصول إلى إعلان الإستقلال الذي تم تأكيد ما كفله من حقوق وحريات عندما صدر التعديل الأول للدستور المعروف بوثيقة الحقوق والتي اعتبرها الأمريكان تاجا يفاخرون به الأمم، ومع ذلك فبعد سبع سنوات من صدور تلك الوثيقة أصدر الكونغرس قانون العصيان الذي وقعه الرئيس جون آدامز والذي يقضي بتجريم كل من يقول شيئا خاطئا أو فضائحيا أو شريرا ضد الحكومة أو الكونغرس أو الرئيس بنية تشويه السمعة، يقول هوارد زن معلقا على ذلك «كأن التاريخ يريد أن يعلمنا بصدور هذا القانون أهم درس: في العالم الحقيقي، الوعود الدستورية شيئ والحقائق السياسية شيئ آخر، وبالرغم من لهجة القانون التهديدية المرعبة وسجن بعض المعارضين لاحقا بسببه، إلا أن زوايا الصحف والنشرات شجبته بشدة وكان على رأس الشاجبين جيمس ماديسون الذي هاجم قضاة المحكمة الدستورية الذين سمحوا بالقانون وعرف بلقب أبو الدستور» والذي أصبح بعد ذلك رابع رئيس للولايات المتحدة الأمريكية وساهم في وضع دستور الولايات المتحدة الذي تم إدخال تعديلات متتالية عليه عبر السنين كان وراء كل تعديل منها نضال طويل ومرير.

وبرغم فخر الأمريكان بتاريخهم الدستوري، سنجد أن أشهر مجلة أمريكية هي مجلة التايم اختارت في 4 يوليو 2011 أن تشارك الأمريكان إحتفالهم السنوي بدستور بلادهم بملف خاص وضعته على غلافها وحمل عنوان (هل الدستور مهم حقا؟)، استعرض أبرز الجرائم التي ارتكبتها السياسة الأمريكية من سجن أبي غريب وجوانتانامو إلى إنرون جيت وحرب فيتنام، ووضعت تحت كل منها نصين مختلفين من الدستور أحدهما يؤيد تلك الجريمة والآخر يرفضها، في إشارة ذكية إلى أن النصوص الدستورية مهما كانت رائعة لن تحمي بالضرورة شعبا من الإستبداد أو الفساد. وهو ما كتبت عنه في يونيو 2012 في مقال ختمته قائلا «أرجوك تذكر أن أي دستور في الدنيا لن يعيش طويلا إلا إذا جاء عبر توافق وطني شامل، وإلا فإنه يصبح مصدرا للقلق والتوتر بدلا من كونه دعامة للبناء، لأن أي دستور يأتي بعد ثورة فيقوم بإنتقاص مطالبها أو الإلتفاف على أهدافها هو دستور ميت قبل أن يولد».

عندما تقول هذا الكلام للبعض يركبهم مائة عفريت وينهالون عليك شتما وتخوينا لأنهم يظنون أن هناك نصا ما يمكن أن يضمن للناس السعادة والتقدم، ولا بأس، سيأتي اليوم الذي سيدرك فيه هؤلاء وغيرهم أن ما يجب أن يكون أولا هو العدالة الإجتماعية والتنمية الشاملة، لأن الإنسان في ظلهما سيصبح إنسانا أفضل برغم كل التحديات، وعندها فقط سيدافع بشراسة عن حرياته وحقوقه ولن يسمح لأحد بأن ينتهكها، ولن يستطيع أحد أن يضحك عليه بإسم الشعارات الدينية أو القومية أو الليبرالية أو اليسارية، وسيدرك أهمية العيش المشترك مع من يختلفون معه في الرأي لأنه أصبح يمتلك ما يخاف عليه ويسعى للحفاظ عليه، وعندها فقط سيهتم بأن يتوافق مع غيره على مبادئ تحكم حياته وحياة أبنائه وأحفاده من بعده.

عندما قرر جمال عبد الناصر أن يرمي في صندوق القمامة دستور 1954 الذي كان واحدا من أفضل الدساتير الضامنة للحقوق والحريات (انظر كتاب الأستاذ صلاح عيسى دستور في صندوق القمامة)، وقام بتقييف دستور 1956 على مقاسه كزعيم ملهم، كتب عمنا بيرم التونسي أغنية لحنها محمد الموجي وغناها فيما بعد محمد قنديل تقول «دستور ولا كل الدساتير.. متحرر أحسن تحرير.. ولا فيهشي مأمور وأمير.. ولا فيهشي صغير وكبير.. دستور ولا كل الدساتير»، وبعدها بعامين سقط ذلك الدستور لكن الأغنية بقيت صالحة للإستخدام في إذاعات الثورة تصف كل الدساتير المتعاقبة بأنها «دستور ولا كل الدساتير.. ما فيهشي مأمور وأمير»، في حين كان الواقع المرير يشهد أسوأ انتهاكات حقوق الإنسان وكبت الحريات ومصادرة إرادة الإنسان لصالح إرادة «جمال مثال الوطنية»، وعندما وقعت هزيمة 1967 كالصاعقة واكتشف العقلاء خطورة تسليم إرادة الشعب كاملة لحاكم فرد مهما بلغت نظافة يده وعظمة أحلامه، لم يعد أحد عاقلا كان أو مغيبا يتذكر أغنية «دستور ولا كل الدساتير» ولا كل الدساتير التي استخدمت للتغني بها، تماما كما لن يتذكر أحد كل المدائح التي ستقال في مديح أي دستور لا يكتبه الشعب بنفسه بعد أن يطلع عينه في التوافق على ما به من مبادئ.

وقديما قالوا: كله بيطلع في الغسيل، غسيل الواقع، حتى الدساتير.

 

belalfadl@hotmail.com