زي بقية الناس - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 6:59 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

زي بقية الناس

نشر فى : الخميس 22 نوفمبر 2018 - 10:10 م | آخر تحديث : الخميس 22 نوفمبر 2018 - 10:10 م

تقلبت بسمة في فراشها وتحاشت أن تنظر إلى المنبه الموجود على الكومودينو إلى جانبها، هي أصلا لا تحتاج أن تنظر إلى المنبه لتعرف كم الساعة فساعتها البيولوچية شديدة الدقة وهي تشير حاليا إلى الثامنة صباحا، ومع ذلك فلا ضرر من اختبار قدراتها البيولوچية، اختلست صاحبتنا النظر إلى المنبه فوجدت الساعة تشير إلى الثامنة إلا خمس دقائق فابتسمت ابتسامة المنتصر وأدارت ظهرها للمنبه وتناومت. شهور وأعوام تتلاقى عقارب الساعة عند السابعة فتنتفض بسمة من فراشها كأن بها مس من الجنون، تتغير مهامها من مرحلة لأخرى من مراحل العمر لكن يظل موعد صحوها هو هو، ولا بأس من بعض الدهشة من أنها قادرة على أن تحشر كل مسؤولياتها في نصف ساعة لتكون بحلول الساعة السابعة والنصف على أهبة الاستعداد للانطلاق. في مرحلة معينة كانت تهرول للجامعة كي تلحق بمحاضرة الثامنة والنصف صباحا قبل أن يغلق الأستاذ إياه باب المدرج ويرفض أن يدخل بعده كائن من كان، وفي مرحلة أخرى صارت تهرول للعمل حتى تبصم مع زملائها وتفلت بالكاد من خصم يوم جديد من راتبها، وحتى عندما أصبحت زوجة ومسؤولة عن ثلاثة من العفاريت الصغار كانت تطير من الحمام للمطبخ لغرفة الأطفال بخفة تامة حتى إذا دفعت بهم لأوتوبيس المدرسة تباعا تنفست الصعداء. أما اليوم فليست لديها الرغبة في أن تغادر الفراش، توفي الزوج، وكبر الأولاد ودخلوا الجامعة وصاروا يتناولون إفطارهم في أون ذي رن، نعم مازال هناك عمل ينتظرها لكنها ترقت وصارت مديرة، والمدراء لا يبصمون .

***
قررت بسمة ألا تذهب اليوم للعمل، مطلوب قليل من التسيب بعد سنين طويلة من الانضباط ، ثم أن رصيدها من الأجازات العارضة يسمح، وهي بكل صراحة تحتاج للتغيير. إن كل من يراها يقول لها: لقد كبرتِ كثيرا يا بسمة! ومع أن هذه الجملة تبدو بلا معنى لأنه طبيعي أن تكبر هي كما يكبر الجميع لكن عندما كانت تقال لها هذه الجملة كانت تأخذها على محمل غير ودود في المطلق وكانت تضايقها بالذات كلمة "كثيرا" ، فلعل قائلها كان يقصد أنها فقدت وهجها، أو أنها لم تعد بسمة اسما على مسمى كما كان العهد بها دائما، أو أنها صارت أقل اهتماما بمظهرها لأن هناك ما هو أهم للعناية به، ولعل محدثها يقصد ذلك كله . قررت بسمة إذن أن تكسر الروتين المعتاد، والآن وقد صار لديها يوم طويل عريض وأربع وعشرون ساعة ملكها وحدها، فماذا هي فاعلة ؟
***
تركت نفسها لنفسها تُسّيرها كما تشاء، قالت كفاني تدبير وتخطيط .. لن أضع خططا لهذا اليوم حتى لو كانت هذه الخطط للترفيه. هكذا أخذت دشا دافئا على عجل وارتدت چينزا وتيشيرتا قطنيا مريحا وقادتها قدماها إلى الكوافير، هي لا تذهب للكوافير إلا في المناسبات واليوم مناسبة للتحرر من الروتين فلم لا تذهب. عادة ما تنهر مصفف شعرها عندما يقترح عليها تغييرا في شكلها، لكنها هذه المرة تركته يُغيّر كيفما شاء، وكان تغييره لا بأس به على أي حال. اشترت باقة من زهور الليليام يميل لونها إلى البنفسجي الفاتح، فاجأها سعر زهرتها الأجمل واكتشفت أنها لم تشتر وردا من فترة طويلة وأنها قاومت الحنين إلى رائحتها الحبيبة، يا قلبك يا بسمة. طلبت من بائع الورد أن يغمس سيقان الليليام في أنبوبة ماء صغيرة كي تحافظ على نضارتها طوال اليوم، فيومها ما زال طويلا بعد. حجزت بحقيبتها مقعدا في كافيتريا مكتبة الديوان وراحت تتجول بين رفوفها، ما كل هذه الروايات التي لم تسمع بها من قبل وما كل هذه الأسماء التي تطالعها لأول مرة، تذكرت دون سبب عنوان رواية جابرييل جارسيا ماركيز الشهيرة "مئة عام من العزلة ". كافأت نفسها بفنجان من الكابوتشينو وجلست تتصفح بعض الروايات التي انتقتها .. شدّتها الصفحات الأولي من رواية "كالماء للشيكولاتة" وأعجبتها فكرة أن تتشكل ذائقة الجنين في المطبخ وعلي رائحة الطهو اللذيذ للأم الحامل، قررت أن تبدأ بقراءة هذه الرواية مساء اليوم .
***
ماذا ؟ مساء اليوم ؟ نظرت إلى ساعتها فوجدتها تقترب من الخامسة ، يا الله ها هو النور يلملم بقاياه وينسحب رويدا رويدا فماذا هي فاعلة ؟ شردت .. ابتسمت .. قهقهت .. رنت في أذنيها إحدى أغنيات صلاح جاهين المحببة التي تغنت بها الرائعة نيللي في فوازير "الخاطبة:"
أيوه كده أخرج زي بقية الناس آكل درة مشوي وجلاس
أدخل وأقفل بالترباس حقي ولا افرط فيهشي
ومعليهشي
التفت إليها جارها المنهمك تماما في قراءة كتابه وتأملها باستغراب فأومأت معتذرة، لملمت أشياءها المبعثرة هنا وهناك بعد أن أوحت لها أغنية نيللي بخاطر لذيذ. تركت سيارتها أمام مكتبة الديوان واستقلت تاكسيا حتى شارع الكورنيش أمام مبني التلڤزيون، مشت في ركاب شابات وشبان متخاصرين ومتشابكي الأصابع فعاد بها العمر سنوات للوراء، مشت أكثر وأكثر وتصبب عرقها فأفسد تسريحة الصباح، لا يهم فكل ما فعلته اليوم كان له هدف أو تاريخ صلاحية ولو لساعات قليلة، راحت تقضم بنهم كوزا من الذرة المشوي وكأنها تتعرف عليه لأول مرة. لم يتبق لها لتنفذ نصيحة صلاح چاهين كاملة إلا أن تشتري الجلاس لكنها شعرت بالتخمة ، لا بأس، يكفي أنها خرجت زي بقية الناس وتلذذت بأكل الذرة المشوية الشهية.
***
عادت إلي بيتها محملة بأزهار الليليام وكيس الكتب وبقايا كوز الذرة، مفاصلها تؤلمها.. تؤلمها بشدة لكنها سعيدة بل سعيدة جدا وسعادتها اليوم مختلفة. نزعت ورقة من أچندتها الصغيرة وكتبت عليها دون ترتيب: سينما، تمشية في وسط البلد، كافيه ريش، الموسيقي العربية، شارع المعز، سوق الفسطاط، زيارة نهى، ووضعت نقطا كثيرة لأجازات أخرى عارضة .

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات