بولونيا - خالد الخميسي - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 12:46 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بولونيا

نشر فى : الإثنين 23 فبراير 2009 - 8:08 م | آخر تحديث : الإثنين 23 فبراير 2009 - 8:08 م

 إذا لم تأكل في "نُزْل الدبة" فأنت لم تزر بولونيا، هكذا قال لي ناشري الإيطالي وهو يقودني إلى مطعم يقع في وسط المدينة. كنت أرتجف "كجنحي طير في عاصفة ثلجية" وأنا أسير في شوارع بولونيا المتعرجة التي تم بناؤها في عام 534 قبل الميلاد وهي تعد بحق من أكثر المدن الأوربية حفاظا على طابعها المرتبط بالقرون الوسطى.

هذا الطابع جعلني أفقد تماما البوصلة في متاهة حلزونية رائعة الجمال، تلك البوصلة التي دائما ما كنت أفتخر بها بعد أن ربيتها طويلا عبر سنوات ترحالي. سرنا في شوارع تشبه شارع محمد علي ببواكيه، أقدم منه بمئات السنوات وأنظف منه بمئات السنوات الضوئية. يمكنك أن تسير في شوارع بولونيا لساعات طويلة دون أن تسقط على رأسك نقطة مطر رغم إنهمارها الدائم، فالأرصفة مُسقَّفَة تحيطها أعمدة مزخرفة والحوائط مدهونة بلون قرمزي دافئ، أما الأسقف فهي حمراء بلونها الطوبي المميز، مررنا ببياتزا ماجيوري، ميدان فسيح تم بناءه في القرن الخامس عشر وتحيطه أبنية تاريخية في واحدة منها تم تتويج شارل الخامس حفيد الثنائي الأسباني المرعب إيزابيلا وفرديناند، وقد حكم شارل مساحات شاسعة من أوربا محققا أحلام شارلمان. وهناك قال لي فرانشيسكو بقدر من القدسية: "تقف الآن في أقدم مكان في بولونيا". ابتسمت قائلا: لا تتحدث مع مصري عن الزمن، فنحن الذين صنعناه.

بدخولي نزل الدبة إنتقلت من صقيع ديسمبر إلى دفء أنفاس بشر لا حصر لهم يقفون في كل مكان انتظارا لطاولة خالية. بولونيا مدينة ذات مناخ قاري، شديدة الصقيع في الشتاء وشديدة الحر صيفا. أجبته أنني لم أكن مستعدا لتحمل ما دون الصفر.
تجولت ببصري بعد أن سرى دفء الشباب من حولي في نسيج عضلاتي، فوجدته مطعم اسبرطي الروح، أرضية من البلاط القديم وموائد خشبية طولية متهالكة تأكل صفحة وجهها طعنات الزمن الغادر وأمامها دكك خشبية عبارة عن لوح خشبي متآكل بعرض عشرين سنتيمترا وقدمين على شكل علامة ياسر عرفات للانتصار ولكن مقلوبة على وجهها وكان الله بالسر عليم لا شئ آخر في هذا المطعم.

جلسنا أخيرا على دكة بجانب مجموعة من الشباب، كنت قد لاحظت أن معظم من رأيتهم في الشارع هم من الشباب، أجابني فرانشيسكو أن جميعهم من الطلبة قد جاءوا من أنحاء مختلفة في إيطاليا للدراسة.
فبولونيا بها أقدم جامعة في أوربا على الإطلاق، تم إنشاؤها منذ قرابة الألف عام وبالتحديد في 1088م، ولذلك تسمى بولونيا "العالمة" فمن تلك المدينة أنار العلم كل أوربا وكانت هي العالمة، ولكن لبولونيا أسماء أخرى كالحمراء من لون الطوب الأحمر التي تشتهر به وأيضا لأنها مدينة ذات أغلبية يسارية، وأيضا بالسمينة كناية على عظمة وشهرة مطبخها. ضحكت متذكرا زبيدة في ثلاثية محفوظ فهي كبولونيا عالمة وحمراء وسمينة.
كان الصقيع في الخارج قد جعلني أتضور جوعا، سألت عما تشتهر به السمينة من أكلات فعرفت أن المورتديللا هي تخصص تلك المدينة وأن السباجيتي بولونيز لا علاقة له ويا للغرابة ببولونيا. وما دخل الدبة؟
تعيش الدببة في جبال أبينينو التي تمتد من الشمال إلى الجنوب لتقسم إيطاليا إلى نصفين شرقي على الأدرياتيكي وغربي على المتوسط ويعتبر الشعب تلك الدببة إيطالية أكثر من الإيطاليين. وتقيم الدببة جنوب بولونيا وقد أثبتت هي الأخرى أنها يسارية كالمدينة الحمراء عندما استقبلت عددا كبيرا من أشقائها دببة جبال يوجوسلافيا السابقة بلا أي مشكلات مرتبطة بتقبل ثقافة الآخر، فمع الحرب الضارية التي دارت رحاها هناك لم تجد الدببة مناصا من الهجرة من يوجوسلافيا إلى جبال أبينينو الإيطالية.
تدخلت الشابة التي تجلس بجانبي على الدكة في الحوار بتلقائية وكأنها تعرفنا منذ زمن، كانت ترتدي الكوفية الفلسطينية وقد رسمت على كفها وشما صينيا لتنين، قالت لي أن بيرلسكوني يخطط الآن لإعادة الدببة الأجنبية إلى غاباتها الأصلية بعد أن بدأ في سن وتطبيق سياسات شديدة العنف ضد كل المهاجرين. ضحكنا من النكتة حتى عرفت أنهم يخططون حقيقة لإرجاع الدببة اليوجوسلاف إلى بلادهم ولكن بالطبع لأسباب بيئية.
سألني الشاب الجالس أمامنا : هل تعلم أن هناك شبابا إيطاليين دون العشرين يسيرون مساء فى روما للبحث عن مهاجر لضربه وأحيانا يقومون بطعنه طعنات غير قاتلة! كارثة وبيرلسكوني وأمثاله يزكون نيران الغباء والتخلف. الفاشيست يعودون بعد أن اختفي حزبهم واندمج في الحزب الحاكم. خرجت مرة أخرى بعيدا عن صخب الشباب الأحمر مستسلما للدفء الصامت للجليد الأبيض منتظرا واحدا من الفاشيست الجدد.

خالد الخميسي  كاتب مصري