حن كما تشاء ولكن لا تعد - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 2 مايو 2024 2:09 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حن كما تشاء ولكن لا تعد

نشر فى : الثلاثاء 23 أغسطس 2022 - 7:35 م | آخر تحديث : الأربعاء 24 أغسطس 2022 - 6:51 م
لا أعود، إلا مضطرا، لزيارة مواقع وقعت فى حبها فى ماضى الأيام خلال إقامة طويلة أو زيارة قصيرة. عشت أخاف إن عدت إلى موقع من هذه المواقع فسوف أجده تغير فى الشكل أو فى سلوكيات الناس، وبالتالى أفقد بعض حبى له أو يتراخى تعلقى به. لا أفهم كيف أتوقع أن يحدث هذا فى علاقتى بمدن وبحيرات وغابات وجبال خضراء تطل على بحار تلامس الأفق وتستقبل شمس الغروب، ولا يحدث مع أفراد كثيرين تعلقت بهم، فإلى هؤلاء أنا أعود دائما. إن هم ابتعدوا أبذل جهدا فى السعى إليهم حيثما كانوا وأينما وجدوا. أعرف أنهم تغيروا كما تغيرت أنا نفسى وربما أكثر. تغيروا ولا شك فى الشكل وربما فى السلوك ومع ذلك يبقى تعلقى بهم قويا وفى حالات بعينها عاد أقوى.
• • •
عشت سنوات فى إيطاليا. أحببتها وأحببت أيامى فيها. أحببت روما بوجه خاص وأحببت أهلها وتعلقت بالكثيرين منهم. أعجبنى فيهم عشقهم الساخر لوطنهم ولغيرهم من الإيطاليين. لا يصدقون ما درسوه ويحكى عن بطولات أجدادهم فى زمن الإمبراطورية ولكنهم يشتركون فى تمجيدها وإن أحيانا بسخرية. أبدعوا فى التمييز بين اعتناقهم التزام الأخلاق المسيحية التى تحملت امبراطوريتهم مسئولية نشرها وبين اعتناقهم على امتداد العصور مبادئ التحرر منها فى معظم علاقاتهم الاجتماعية. عرفوا كيف يضيفون إلى جمال الطبيعة جمالا وإلى جاذبيتها جاذبية وإلى الموسيقى لمسات عبقريتهم. عشقت السفر بين مدنها بكل وسائل النقل، بسيارتى الفورد وبالقطار والحافلات نهارا، عشقت بخاصة رحلة القطار الليلية بين روما وميلانو وبالعكس. عشت سنوات أخفى سر هذه الرحلة الشهرية إلا عن من استحق شرف كتمان كل الأسرار.
تلقيت على مر السنين عديد الدعوات وجاءتنى عشرات الفرص للعودة إلى إيطاليا فى زيارات قصيرة. رفضتها جميعا وأنا أتألم. شاءت ظروف خارجة عن الإرادة أن أتوقف فى روما لساعات معدودة. كنا، محمد حسنين هيكل وأنا، فى الطريق من ليبيا إلى القاهرة خلال رحلة أخذتنا إلى فرنسا والمغرب والجزائر وليبيا. كان ضروريا أن نتوقف وننتظر فى مطار روما الساعات الفاصلة بين وصولنا للمطار ورحيلنا منه إلى القاهرة. اختار هيكل قضاء هذه الساعات فى مدينة روما، واخترت أن أقضيها مع نفسى على شاطئ البحر فى ضاحية أوستيا على أن نعود فنلتقى فى المطار لنأخذ معا طائرتنا الإيطالية المتوجهة إلى القاهرة. لم يفهم رفيق الرحلة، وأظنه لم يحاول أن يفهم، الدافع وراء انطفاء الرغبة فى زيارة روما ولو لدقائق وهو الذى سمع منى وعنى حكايات تنبئ عن إعجابى غير المحدود بهذه المدينة الساحرة وعشقى لشعبها خفيف الظل.
• • •
يبدو أن التلال والجبال تجذبنى إلى العيش فى وسطها أو على قرب مناسب منها. روما كما تذهب الأسطورة مدينة قامت، أو تقوم على سبعة تلال. لا أشك فى الأسطورة فلكل حكاية من التاريخ حكاية أخرى تناقضها أو تبذر شكوكا فى صدقيتها. ربما كان يجب أن أتحقق بنفسى. لم أشأ أن أتحقق بعد أن استقر بى المقام فى المدينة الخالدة، فالحب فى أوله لا يحتمل التشكيك ولا يتسامح معه إن وقع. والحب فى بقية مراحله لا يهتم بمثل هذه التفاصيل.
• • •
مدينة أخرى استقبلتنى استقبال روما وأرست الأساس لعلاقة تعتمد نظرية النظرة الأولى بين عاشقين. تبادلنا على الفور عاطفة غريبة فى نشأتها وعجيبة فى أطوارها. لم أكن واثقا من صفات لم ترد فى الكتب التى قرأتها قبل وصولى أو بالشروط التى يجب توفرها فى الزائر قبل أن تطأ قدماه أهم ساحاتها أو يتعرف على أحلى بناتها. عرفت يوم وصولى أن لسانتياجو علاقات مع تضاريس أكسبتها ملامح خاصة وأنعمت عليها بجمال لم تحظ به عواصم أخرى زرتها أو عشت فيها فى أمريكا اللاتينية. لم أقارن بين روما وسانتياجو. كنت على حق إذ علمتنى السنوات اللاحقة وجوب تفادى المقارنة وأنا تحت تأثير الانبهار أو حتى الارتياح. ما كان يمكن على كل حال أن أقارن بينهما. هناك فى روما الجمال أنيق وأخاذ، وهنا فى سانتياجو جمال بسيط وأخاذ، أحدهما يحتضن جميع عواطفك ويبقيها ملتهبة والآخر ينزل عليك بعد إنهاك السفر والقلق بردا وسلاما ويبقيها حبا ناعما وشفافا. لا يتركك إلا وقد صارت سانتياجو جنتك المفضلة على الأرض والإسبانية بلهجة الكاستيلانو لغة من لغاتك الأصلية.
• • •
لى صديق يكبرنى بعام أو بعام ونصف. ولدت فى البيت رقم 16 وولد بالبيت رقم 15. تنقلت بين بلاد الكون وبقى فى مصر لا يغادر. عشنا نتصل الواحد بالآخر كل حين. نطمئن على مسيرة العمر فى تقدمه. نتبادل التشجيع ورفع الهمم. يهنئنى بما حققت من توازن فى مجالات غير قليلة وأهنئه بما حقق من استقرار فى عواطفه. أوجه له بعض الأسئلة عن الأصدقاء المشتركين وأحسده حسد المحب على قوة ذاكرته. اتصلت به فور انتهائى من كتابة الفقرات السابقة من هذا المقال. طلبت منه أن يتنحى جانبا بعيدا عن جلبة أحفاده لأن أسئلتى كثيرة هذه المرة. قلت «يا محمد، يهف أمامى بكثرة هذه الأيام الأخيرة منظر شارعنا الذى ولدنا كلانا ونشأنا وعشنا فيه كل سنوات طفولتنا ومراهقتنا. أرى الشارع يا صديقى ينتهى فى شارع رئيسى يمر فيه الترام الذى كثيرا ما ركبناه أمى وأنا. ننتظر وصوله وقوفا على رصيف محطة لاظوغلى. تختار أمى كابينة السيدات رغم معارضتى لأنها لم تكن تطل على الشارع من جميع مداخلها كبقية أقسام الترام. يأخذنا الترام عبر ميدان السيدة زينب ثم شارع الخليج لننزل فى محطة باب الشعرية. كثيرا ما كان الكمسارى يتصرف مع أمى بأناقة فيصر على إعفائها من دفع قيمة نصف التذكرة للطفل الجالس بجوارها، راجيا إياها أن تنقلنى إلى حجرها عند وصول المفتش. سألت محمد «هل ما زال شارعنا يصب فى شارع الترام أم انحرف به الزمن؟ «هل تذكر يا محمد «صالون» عم توفيق الحلاق؟». من يا ترى ورث المحل فالرجل كان متقدما فى العمر وفى الشكل أيضا؟ يعنى كان فى حوالى الأربعين وقتها. طيب وهل ما زال شبان الشارع يلعبون الكرة فى عرض الطريق؟ لا شك تذكر يا محمد الشاب الذى كنا نختاره دائما ليقف حارسا لمرمانا. سمعت أنه توفى قبل عامين أو ثلاثة وأن جنازته شيعها كبار القوم على أنغام الموسيقى الحزينة. يهف أيضا على مخيلتى الأسطى على السروجى الذى كان يسكن ويعمل ويستضيف إحدى زوجاته فى غرفة تحت سلم بيتنا. تذكر أننا قررنا بإجماع الأصوات اصطحابه فى رحلتنا الصيفية إلى الإسكندرية ليرى البحر وتوسطنا لتعيينه حاجبا فى وزارة مهمة عندما صار لأحدنا كلمة مسموعة. أذكر يا محمد صلاح جاهين وأصدقاءه الذين كانوا يزورونه فى بيته المطل على حوش المدرسة. أذكر أيضا روضة الأطفال وكانت فى أول الشارع ومدرستى الابتدائية على شارع الترام ومدرستنا الثانوية فى شارع نوبار. أذكر يا صديقى أننا لم نفترق إلا عندما دخلنا الجامعة. قلت لى ذات مرة بعد سنوات من مغادرتى الشارع إن حوالى الثلثين من رفاق الحى اختاروا الكلية الحربية والثلث ومنهم أنا وأنت واسماعيل وسمير وقناوى ويوسف ويعقوب والبنا وكل البنات اخترنا الكليات المدنية. أتساءل يا محمد ولن أطيل عليك. بيتى وبيتك، كما كنت أسمع، شيدا فى الثلاثينيات. هل ما زالا ينتصبان هيبة وسكانا؟ أشعر برغبة شديدة فى الذهاب إلى هناك وزيارة المكان بعد هذه السنين العديدة.
رد الصديق برسالة لا ينقصها التفصيل. قال «من فضلك لا تعد. بيتك يا صاحبى هبط مترا أو أكثر فى الأرض. أنسيت أن عمره الآن يقترب من المائة. لم يتبق من كل ما ذكرت وهف عليك سوى المدرستين اللتين كانتا تطلان على شارعنا. رحل عن عالمنا عم توفيق الحلاق والأسطى على السروجى ومعظم لاعبى فريق كرة القدم وآخرهم حارس المرمى. أما الترام يا صاحبى فقد خلت منه الشوارع ورفعت قضبانه وحلت حافلات مختلفة الأجناس والأعمار والصحة والعافية محل أوتوبيس الثورنى كروفت الإنجليزى المنحنى على جانبه الأيمن تحتك سلالمه مزمجرة فى الإسفلت فى ذهابه وإيابه. صباح الخير يا جارى. نحى عن خاطرك هذه الفكرة. فكرة أن تعود فى رحلة لإلقاء لمحة على شارع ليته بقى فى ماضيه ولم يجرب التغيير».
• • •
وعدت صديقى ألا أطيل عليه فساقه الكليلة تؤلمه وتدعوه ليبتلع من أجلها قرصا من عديد الأقراص التى يحتفظ بها بجانب فراش نومه. أجلت توجيه أسئلة كثيرة أو نقسمها معا مجموعات. أريده يحكى بذاكرته الرائعة عن المرة الأولى التى شربنا فيها البيرة ولم نتجاوز الثانية عشرة من عمرنا إلا قليلا. أذكر أننا اشتريناها بسبعة قروش واصطحبناها مع كيس فول سودانى إلى سينما ستراند الصيفية وكلانا عوقب عند العودة. أريده يحكى عن ليالى الغارات الجوية التى كان يشنها الطيران الألمانى على معسكرات الإنجليز فى قصر النيل، محل فندق الريتز والجامعة العربية، كنا كبارا وصغارا نجتمع ساعة الغارة عند سكان الدور الأرضى من بيتنا أو فى شقتكم بالبيت المقابل لبيتنا. الكبار يناجون ربهم «يا نجى الألطاف نجنا مما نخاف» والصغار بنات وصبيان لاهون يلعبون الاستغماية وسط الظلام الداكن.
***
قبل أن نتبادل عبارات التوديع المناسب عاد يلح بالنصيحة التي بدأ بها .. لا تعود يا صديقي. الماضي لن تجده في شارع أو مدينة أو عند شخص آخر. الماضي هو ما استطاع خيالك إبقاءه حيا.
جميل مطر كاتب ومحلل سياسي