علاقة الحـب بـين الضحية والجلاد - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 9:43 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

علاقة الحـب بـين الضحية والجلاد

نشر فى : الخميس 24 فبراير 2011 - 10:06 ص | آخر تحديث : الخميس 24 فبراير 2011 - 10:06 ص

 رغم كل مآزق ومشكلات النظام السابق، ورغم السياسات التى أدت فى مجملها لسقوط قطاعات عديدة ورئيسية فى الدولة، رغم انهيار التعليم والصناعة والزراعة، رغم الاعتقالات والتعذيب وتزوير الانتخابات الذى كان يتم بشفافية مطلقة، رغم ازدياد معدلات الفقر وظهور أناس يبحثون عن بقايا الطعام فى صناديق القمامة، رغم عدم وصول الخدمات الأساسية لكثير من المناطق ووجود محافظات تعانى العطش والغرق فى مياه الصرف الصحى بينما تفيض المجمعات السكنية الفاخرة بالبحيرات وملاعب الجولف، رغم انتشار الأمية وازدياد أعداد الشباب الجالسين على المقاهى دون عمل أو حلم، رغم كل شىء أصادف الكثيرين ممن لايزالون متمسكين بولائهم لكل ما سبق، قطاع من الناس لا يتمثل فقط فى كبار السن بل يشمل شبابا صغارا.

حين أسألهم عما رأوه فى السنوات السابقة يعترفون بوجود أزمات كثيرة ويقرون بالفساد والاستبداد السياسى، لكنهم أيضا لا يرون أن الرئيس السابق مسئول، يحيلون كل شىء لمن حوله ويضعونه بعيدا عن أى إساءة قد ارتكبها نظامه. يتمنى معظمهم أن يعود مبارك للحكم، وأن يبدأ حملة إصلاح وتطهير. هم باختصار لا يتصورون الحياة دونه ولا يمكن إقناعهم بأن هناك من يقدر على إرساء وضع أفضل للجميع. المناقشة تخلو من أى منطق، والانفعالات تهزم كل الشواهد والدلائل والبراهين. حالة ربما تحتاج إلى دراسة وتفكير..

حين يتمسك المرء بما يؤذيه ويلتصق به ويرفض أن يبتعد عنه حتى مع وجود فرصة للهرب فإن هذا الموقف يحتاج إلى تفسير. تشير بعض الدراسات النفسية إلى نوع من الروابط ينشأ بين طرفين، أحدهما مهيمن والآخر خاضع، جلاد وضحية أو فاعل ومفعول به. تتكون الرابطة المقصودة حينما يتم حرمان الضحية من كل شىء خاصة من التواصل مع بشر آخرين.

لا يصبح هناك سوى الجلاد، يملك الطعام والشراب والنوم والراحة وما إليها من أشياء، ويتحكم برغبته فيها جميعا. يصبح هو المسيطر على جميع تفصيلات الحياة حتى تلك المتناهية الصغر. تقول الدراسات إنه إذا وُضِِعَ إنسانٌ فى سجن لا يرى فيه سوى السجان فإنه سوف يرتبط به رغما عنه، سوف يعتمد عليه فيما لا يتمكن من توفيره لنفسه، وسوف يرغب أحيانا فى إرضائه وفى التماس وده وقربه. قد يكره المسجون السجان لكنه فى الوقت ذاته سوف يتعلق بوجوده، ليس ماديا فقط بل معنويا أيضا. هى علاقة تحمل داخلها مفردات غاية فى التعقيد.

تعانى الضحية من الحاجة الماسة إلى الشعور بوجود صلة إنسانية ما، وفى غياب البدائل لا مفر من إقامة هذه الصلة مع الجلاد المهيمن على المقدرات، تتجنب الضحية إغضابه وتدرك أن لا أحد لديها سواه، هو الذى يعطيها ــ ويا للعجب ــ شعور بالحماية وبشىء من الأمان. لهذا السبب تحديدا قد ينشأ لدى الضحية إحساس بالارتباط وبالحب لهذا الذى يقوم على حبسها وتجويعها وإيذائها، إنها الحاجة الإنسانية الدائمة لمن يلعب دور الحامى حتى وإن كان هذا الحامى يقوم بالتعذيب. ولأن الأمر غير منطقى وحتى تتمكن من تفسيره لنفسها، فإن الضحية تصبح مدفوعة من داخلها لإنكار أى إساءة ألحقها بها الجلاد، تلتصق به أكثر فأكثر وتحذف من وعيها كل الصدمات والإساءات السابقة التى ارتكبها فى حقها ومن ثم تحافظ على صورته نظيفة بيضاء. يصبح الجلاد هو الحامى والمصدر الوحيد للأمن والاستقرار. تُسمى هذه الرابطة المرعبة «الرابطة الرِضِّية».

على مدار السنوات التى حكم فيها مبارك تمكن النظام من خلق رابطة رضية قوية لدى كثير من الناس. رابطة ما بين الرئيس الذى يملك كل شىء والشعب الذى لا يملك فعليا أى شىء. بين يدى هذا الرئيس تجمعت السلطات الثلاث: القضائية والتشريعية والتنفيذية، يرأس كل المجالس العليا يغير الدستور ويحل البرلمان ويحرك الشرطة والجيش.

على مدار ثلاثين عاما حرم النظام قطاعا كبيرا من الناس من القدرة على الفعل ومنع التواصل الحر بين الجماعات والأفراد وحاصر الكل بكثير من الزيف والتضليل والخداع، حرم الأغلبية العظمى من التعليم الجيد ومن الطعام المتوازن ومن المياه النظيفة. حرمهم من الحصول على الحد الأدنى من جميع الخدمات التى تقع على الدولة مسئولية توفيرها.

ليس هذا فقط بل إنه أيضا حرمهم من إفراز قيادات سياسية ناضجة قد تقود إلى تغيير. حرمان كامل من كل شىء. بقى وحده فى الصورة جلادا منفردا ومن حوله ضحايا كثر. لعبت الآلة الإعلامية دورها لترسم صورة القائد الحكيم الذى أوتى من القوة والقدرة ما يجعله يأتى دوما بالصواب، ورَسَّخَت فى العقول كونه صمام الأمان والحماية الذى لا بديل عنه، إنه هو فقط المؤهل لإمساك الدفة ووقاية البلد من المؤامرات الداخلية والخارجية التى تُحاك ضده باستمرار.

نجح الإعلام فى مهمته جزئيا، ومع كل سياسات القمع والقهر والتجويع ومع التدهور الشديد على كل المستويات، لم يثر على النظام أحد لما يزيد على ربع القرن. لقد تكونت الرابطة الرضية وأصبح الرئيس يحتل فى كثير من الأذهان موقع الرمز الذى يتم التغاضى عن أخطائه بينما تستحيل الحياة بغيره. بالنسبة للكثيرين كان هو الوحيد القادر على الفعل ومن دونه الفوضى والضياع. حين قامت الثورة لم يتمكن بعض هؤلاء الضحايا من التفاعل معها خاصة مع تسارع الأحداث. ظلوا يدافعون عما توطد داخلهم لسنوات.

الآن وقد انتهى الأمر وانكسرت الرابطة، ليس علينا أن نكيل الاتهامات ونوزع عبارات التخوين، فلنعمل فقط من أجل الوصول إلى دولة مدنية دون أصنام، لا جلاد فيها ولا ضحايا.. لا مُهَيمِن أوحد ولا أناس خاضعين.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات